عجائز فى انتظار «رصاصة الرحمة»: لا «أهل» ولا «علاج» ولا حياة لمن تنادى

كتب: رحاب لؤى

عجائز فى انتظار «رصاصة الرحمة»: لا «أهل» ولا «علاج» ولا حياة لمن تنادى

عجائز فى انتظار «رصاصة الرحمة»: لا «أهل» ولا «علاج» ولا حياة لمن تنادى

 

داخل العيادات وأمام لحظات الألم والمرض، يعيد كثيرون اكتشاف أنفسهم وكذلك اكتشاف أقرب الناس إليهم، تسقط الكثير من الأقنعة ويصبح كل شىء «على عينك يا تاجر» حيث لا مجال للمواربة أو الضحك على الذقون، مواقف بلا حصر لنذالة وتخلى وهجر وأخرى لوفاء وحب واهتمام، يجد الطبيب فجأة نفسه جزءاً منها، تخرجه لوهلة عن دوره كطبيب وترده إلى حقيقته كـ«إنسان» يتأمل الموقف ككل بكثير من الحزن تارة والانبهار تارة أخرى.

{long_qoute_1}

عشرات القصص التى تلعب فيها المرأة دور البطولة، يشهد عليها الأطباء منذ لحظة تخرجهم وحتى وصولهم إلى ذروة النجاح، الدكتور محمد عز العرب، استشارى أمراض الكبد والجهاز الهضمى، واحد من هؤلاء، داخل عيادته وأثناء الحديث مع المرضى تتكشف عشرات القصص التى يرحل من بعدها المريض ليبقى «عز العرب» فى حالة ذهول متسائلاً: «إيه اللى حصل فى الدنيا؟».. يروى: «عشرات من السيدات المسنات، فوق السبعين، يأتين إلى الكشف وحدهن تماماً، بعضهن لا يقوى على السير، يبدأن فى الحديث عن شكاوى ظاهرية مختلفة، أبدأ فى سؤالهن عن الأدوية ومواعيدها، ومدى الالتزام بها لأفاجأ بأنهن لا يحصلن على أدوية أو أدنى رعاية، نساء يعِشن وحدهن بالكامل، سواء رحل الزوج أو تزوج بأخرى، تجد السيدة نفسها فى النهاية بلا أبناء يعودونها أو زوج يسندها».. حالات مادية واجتماعية مختلفة، الأمر ليس رهناً بمستوى ما، بحسب «عز العرب»: «أسألها جاية لوحدك ليه، فين ولادك، أو جوزك، تعيّط، سيدات كتير داخل عيادات الكبد وغيرها يتلخص مرضهم وأزمتهم فى حاجتهم لبعض الحنان والاهتمام»، لكن الواقع مؤذٍ وقاسٍ، أبناء جاحدون، وأقارب لم يعودوا يعرفون شيئاً عن بعضهم بعضاً، الأزمة طالت الفقراء والأغنياء على حد سواء: «تأثير نفسى يمتد للطبيب المعالج الذى يعجز عن التصرف مع سيدات فى أواخر العمر بلا أحد».

«النذالة» تتجسد باستمرار فى عشرات المواقف، ليس لها دواء يعرفه الطب: «جانى شاب عمره بين 25 لـ30 سنة، أثناء توقيع الكشف وجدت جرحاً فى بطنه، اكتشفت أنه باع كليته، عشان يقدر يعالج الكبد، اترجانى مابلغش عنه، بلغته إن سرية المريض واجب على الطبيب، لكنى تساءلت كثيراً حول الظرف الاجتماعى الذى يدفع شاباً مثله إلى بيع كليته من أجل العلاج، لم يجد عائلة تدعمه أو أسرة ترفق به! صحيح أن ما فعله ضد المواثيق العالمية التى تؤكد أن جسد الإنسان ليس ملكاً له، لكن الظرف كان أقوى من كل شىء». النذالة تتواصل بداية من العيادة وصولاً إلى غرف العمليات: «مرضى كثيرون بحاجة إلى عمليات زراعة كبد، يوجد فى عائلاتهم الكثيرون ممن تتوافق أنسجتهم مع المريض ويستطيعون منحه الحياة، لكنى أفاجأ بهم يتهربون، لكن الصورة ليست قاتمة للغاية فبعض المواقف تؤكد أن الدنيا ما زالت بخير، فما زلت أرى أزواجاً يأتوننى معاً، فوق الخمسة وسبعين عاماً، أرى الرجل يحنو على زوجته ويعلو القلق وجهه، خوف شديد وألم من مرضها، واهتمام بها رغم ضياع الصحة والجمال».

داخل عيادته يتلقى الدكتور عبدالحليم المنوفى، استشارى أمراض الباطنة والقلب، المزيد من الصدمات يومياً أمام ردود ومواقف يصعب على المرء استيعابها: «مرضى بلا حصر يعجزون عن متابعة العلاج بسبب القدرات المادية، الدولة تقف متفرجة على مرضى يموت أكثرهم بسبب عجزهم عن إيجاد دعامات قلبية أو قساطر، البعض يلجأ إلى جمعيات خيرية فيما يعجز آخرون عن العثور على سبيل ليموتوا فى صمت».

للمرضى جميعاً شأن وللنساء شأن آخر، خاصة العجائز منهن، هذا ما يؤكده «المنوفى»: «الست لما بتتعب أقرب الناس بيتخلوا عنها، بشوف الموقف دا كل يوم، مش زوجها بس، المجتمع كله والعائلة بالكامل، بكل أسف»، لا فارق بين سيدة كبيرة وأخرى صغيرة، السن ليس فارقاً، كلهن يحظين بنفس القدر من النذالة، بحسب الطبيب المخضرم.

«الست العيانة شخص غير مرغوب فيه، حتى من أبنائها، مكنتش ممكن أصدق الحقيقة دى غير لما شفتها وسمعتها بودنى». يروى الطبيب قصة عشرات الحالات لمُسنّات يعانين من أمراض قلبية كبرى: «الست لما تعدى السبعين أو تكون فى التمانين بيعاملوها على إنها آلة قديمة خسارة فيها الفلوس، أو التصليح، وصف مخجل لكنه حقيقى، بيعتبروها إنها خلصانة خلصانة».. يتذكر تلك الحالة لعجوز مسنة مصابة بكسر فى الفقرات وعظام الفخذ وتعانى من آلام غير محتملة، نصحهم طبيب العظام بزيارة طبيب القلب ليخبرهم بإمكانية إجراء العملية: «جم وسألونى وقلت لهم تقدر تعملها وتخف لكن التكاليف هاتكون عالية، حوالى 30 ألف جنيه، اتصدمت من الرد، ابنها قال لى نصاً (وعلى إيه دا كله هى ميتة ميتة أصلاً)».. ما يزال الطبيب يحاول استيعاب هذا القدر من المعاملة الدونية: «يمكن لأننا مجتمع ذكورى بطبعه، لما الأب بيتعب بلاقى الأولاد بيبذلوا الغالى والرخيص لعلاجه، لكن الأم لو تعبت بيعاملوها زى خيل الحكومة، مش مهم الألم أو التعب، بيسيبوها لحد ما تموت بالبطىء فى البيت، ويستخسروا فيها أى تكاليف مادية، البعض يفعلها دون أى قدر من الكسوف أو الإحراج والبعض يحاول التماس العذر لنفسه عبر استشارة أطباء صغار لهم آراء متحفظة فينصحون الأبناء بعدم العلاج باعتباره بلا فائدة، هنا يتمسكون بالرأى الضعيف لأنه على هواهم، ويتركونها تموت».

«أنا أمى هتموت عليّا، كل ما تشوفنى بتألم من الوجع تتعب أكتر»، قالتها إحدى المريضات للطبيبة الشابة هبة عبدالله، إخصائية علاج الأورام، بكثير من الدموع، موقف جمع ثلاث نساء مع كثير من المفارقات، تروى الطبيبة: «مابقتش عارفة أضحك ولا أعيط، المريضة عمرها 65 سنة، وأمها عمرها 85 سنة».. حاولت هبة الخروج بمريضتها عن دائرة الحزن، سألتها بمزاح «أمك إيه بس هى لسه عايشة؟»، لكن الرد جاء صادماً: «أيوه، وبتنام جمبى، كل ما تلاقينى باتوجع تقول ياريت اللى فيّا ييجى فيها».. قصة من قصص بلا حصر تواجهها هبة كل يوم، ذكرتها بتلك المريضة البالغة من العمر 75 سنة، حملت وربت سبعة من الأبناء تصفهم الطبيبة بأنهم «طول بعرض» لكنها كانت دائماً ما تأتى إلى المستشفى وحدها: «كانت بتعتمد علينا ولما ماتلاقينيش تروح لأنها مش عارفة تتصرف إزاى، موقف مستفز كان بيخلينى أكلم ولادها فى التليفون أعنفهم عشان يبعتوا واحد منهم، للأسف كان ييجى واحد منهم مرة ومايجيش التانية، ولما أقول لها ماتجيش لوحدك تانى، لازم حد من ولادك يبقى معاكى، تقول لى بيوعدونى إنهم هايقابلونى فى الموقف وأستناهم ميجوش، أقول لها ماهو مينفعش كده، اتفاجئ إنها بتلتمس لهم العذر، تقول لى معلش أكيد عندهم مصالح عطلتهم، دول بيجروا على أكل عيشهم ولقمة عيالهم!».

قصص جعلت الطبيبة الشابة تؤمن بأن المرض ليس قاتلاً بقدر الحزن واليأس والشعور باللاجدوى: «مريضة أخرى قعيدة جاءتنى عمرها 82 عاماً، لم تكن تملك مصدراً ثابتاً للرزق سوى أهل الخير، مع ذلك لم تمنعها صعوبة حركتها وكبر سنها من السعى وراء العلاج، كانت تقابلنى بسيل من الدعوات الطيبة، أنا وكل من ساعدوها فى مراحل العلاج المختلفة، وهى الآن فى المرحلة الأخيرة من العلاج بعد أن استجابت للمرحلتين السابقتين»، قصة استثنائية لثمانينية تغلبت على السرطان، وعلى الحزن أيضاً لم تختلف فيها مع أخرى تروى «هبة» قصتها: «أرملة فى الخمسين من عمرها، لبسها بالكامل أسود، تخيلت أن زوجها مات، لكن اكتشفت أن زوجها وولدها الوحيد ماتا قبيل زواجه وأثناء توزيع دعوات الفرح، وتحولت من ربة منزل إلى خبازة فى بيوت أهل القرية.. لم تنع حظها، وكان كل قلقها من حرارة الأفران هل ستؤذيها أثناء فترات العلاج الكيماوى أم لا».


مواضيع متعلقة