سد النهضة.. والكتلة الحرجة

ربما كان ذلك فى أحد أيام عام 1979، إن لم تخنى الذاكرة، خرج فيه «السادات» بخطاب يهدد ويتوعد إثيوبيا باستخدام القوة فى حالة الجور على حقوق مصر فى مياه النيل، أتذكر أن كلام «السادات» حول هذا الموضوع قوبل بحفاوة بالغة من جانب الكثيرين، وكانت تهديداته الصريحة لإثيوبيا موضع إعجاب المصريين، الذين لم تكن ذاكرتهم نحو الحرب قد ضعفت بعد، خصوصاً أن الكلام جاء بعد بضع سنوات من حرب أكتوبر المجيدة، وظنى أن «السادات» وقتها كان يوجه رسالة مزدوجة إلى كل من إثيوبيا، والدول الأخرى التى تساعدها على بناء سدود، لتحرم مصر من حقوقها التاريخية فى مياه النيل. رغم روعة الخطاب، وخطورة الموضوع الذى يتناوله، وتماسه مع أحد الموضوعات المهمة التى تؤرق المصريين حالياً، بعد أن أوشكت إثيوبيا على الانتهاء من سد النهضة، فإننى فتشت عنه على العديد من المواقع، ولم أعثر عليه.

كان «السادات»، رحمه الله، يقدر أن أى حرب يمكن أن تخوضها مصر بعد حرب أكتوبر لا بد أن يكون موضوعها المياه، ومحركها الأول هو النيل. السياق وقتها كان يساعد الرجل على الكثير، بما فى ذلك ضرب أى مشروعات إثيوبية لبناء سدود. أمور كثيرة اختلفت فى الواقع المعاش، وأتصور أن «السادات» لو كان بيننا اليوم لأدار بطريقة أخرى، فأى مسئول هو ابن ظروفه وسياقه، وهو يؤدى فى النهاية طبقاً لما تمليه عليه الظروف والسياقات. فى هذا الإطار يمكننا أن نفهم الطريقة التى أدير بها ملف سد النهضة خلال الأشهر الماضية، فى ظل واقع أفريقى علّق عضوية مصر فى الاتحاد الأفريقى، بعد ثورة 30 يونيو 2013، ثم عاد وألغى تجميد العضوية عام 2014، وواقع إثيوبى يختزن عداءً تاريخياً نحو مصر والمصريين، وواقع إقليمى تسعى فيه دول، عداؤها لمصر صريح، إلى الإضرار بمصالحها.

بغض النظر عن السلطة التى تحكم، لا بد أن نأخذ فى الاعتبار أن هذا الشعب يُحسَب له مليون حساب، وأى دولة تريد أن تلعب بذيلها فى الظلام ضد أمور تتعلق بمصيره ووجوده، فلن تنال منه سوى رد عنيف حاسم دامغ عليها. فليذهب «نتنياهو» حيث يذهب، ويتنقل بين البلدان الأفريقية كما يريد، لكنه فى النهاية يفهم أن معاداة هذا الشعب والجور على حقوقه أمر لن يمر بسلام، وإثيوبيا من ورائه تفهم ذلك كل الفهم، ولا أريد أن يأخذنى الشطط وأقول لك تفسيرات لزيارة «نتنياهو» إلى أفريقيا، عكس كل ما يقال من أنه يسعى للتنسيق مع إثيوبيا للإضرار بمصالح مصر وغير ذلك من أمور، فلربما كان الأمر غير ذلك تماماً، وثمة عوامل أخرى عديدة مرتبطة بالسياقات الإقليمية الحالية تساند التفسير العكسى لأغراض الزيارة، ولا أريد أن أزيد على ذلك.

لا يوجد عاقل فى هذا العالم يشترى عداء المصريين بسهولة، هذه الحقيقة لا بد أن نفهمها كشعب فى البداية والنهاية. الشعب المصرى هو الكتلة الحرجة التى تتشابه مع مفهوم الكتلة الحرجة فى الأسلحة النووية التى يحدث عندها الانشطار النووى، وأنت تعلم الرعب النووى الذى يحكم البشر منذ الأربعينات!.