«عبدالله غيث»: كلمة السر.. «أدهم الشرقاوى»

«القوام الفارع. الصوت الجهير العميق العريض المرن. الوجه المستطيل (يسمونه فى الريف وجهاً عربياً، أى منحوتاً من قسوة الصحراء وشاعريتها). والوجنتان البارزتان والملامح التى تتضاءل كلما اقتربت من مركزها. الشارب المقوس، الكث. وأخيراً: «موهبة بعرض قماشة صوف يستطيع أى مخرج أن يفصل منها ما يشاء من الأدوار: قائداً عسكرياً. صحابياً جليلاً. إماماً ورعاً. زعيماً محنكاً. فلاحاً مسكيناً. عاملاً كادحاً. نفراً أجيراً باليومية. عامل ترحيلة. فتى فتيان. مثقفاً مأزوماً. فارساً عنترياً.. لكأنه فرقة مسرحية كاملة فى شخص واحد». هذه مقتطفات مما قاله الروائى الراحل خيرى شلبى، وهذه شذرات من سيرة «عبدالله غيث».

■ ■

تقول بيانات بطاقته الشخصية إن اسمه بالكامل «عبدالله سيف الدين الحسينى أحمد غيث»، وإنه وُلد فى الثامن والعشرين من يناير 1928 فى «كفر شلشلمون- منيا القمح- شرقية». «شلشلمون» هى حاصل دمج كلمتى «شلشل»، أى «أفق»، و«آمون»، أى «الشمس»، فهى إذن مدينة «أفق الشمس» التى كانت عاصمة مصر أيام النبى «يوسف» عليه السلام، وفيها خزن يوسف قمح السنوات السبع السمان تحسباً للسبع العجاف.

■ ■

تزوج عبدالله -كأى شاب ريفى- فى العشرين من عمره، أى فى العام 1948. تزوج ابنة خالته التى كانت تشبه أمه، وأنجب منها ولدين وبنتاً. الولد الأكبر سماه «الحسينى» على اسم والده، وهى عادة ريفية. والبنت سماها «عبلة»، تيمناً بحبيبة «عنتر» الذى جسّد شخصيته فى مسلسل تليفزيونى. والولد الثانى سماه «أدهم»، تيمناً ببطل الملحمة الشعبية الخالدة، والذى جسّد أيضاً شخصيته فى فيلم للمخرج الراحل حسام الدين مصطفى.

■ ■

توفى والده بعد سنة واحدة من ولادته، أى فى العام 1929، وكان فى الخامسة والثلاثين من عمره. ويضم ألبوم عبدالله صورة للأب بشورت حتى الركبة، وكرة قدم بين قدميه، واقفاً بين أعضاء فريق مدرسة «السعيدية» الثانوية الذى كان يضم أيضاً ساحر الكرة حسين حجازى. كان الحسينى أحمد غيث يشغل مركز قلب خط الوسط، أى صانع الألعاب، وخطفته «السعيدية» من «الخديوية» بنفس أسلوب فرق الكرة هذه الأيام. سافر إلى إنجلترا عام 1912 لدراسة الطب، وقضى هناك حوالى عامين، ثم عاد فى إجازة إلى مصر واندلعت الحرب العالمية الأولى فلم يتمكن من إكمال دراسته، واختير لمنصب العمدة خلفاً لوالده.

كان أهل شلشلمون يسمونه «العمدة المثقف» ويشعرون أنه ينتمى إلى سلالة بشرية مختلفة، ولم يكن يجالس أحداً بالفعل سوى رجل يُدعى «الشيخ عبدالمعبود». وقد رُويت أساطير عن قوته الجسدية، فقيل مثلاً إنه كان إذا صفع لصاً أو مجرماً أسقطه على الأرض فاقداً الوعى، وإذا صفعه على أذنه اليمنى خرجت الدماء من اليسرى وأصابه صمم.

■ ■

كان عبدالله تلميذاً فاشلاً. وخلال تخبطه وانتقاله من مدرسة إلى أخرى كان هاجس التمثيل الذى غذّاه شقيقه الأكبر وأبوه الروحى «حمدى» يزداد تمكناً منه، لكنه وُوجه فى كل مدرسة بناظر يكره التمثيل ويعتبره كلاماً فارغاً. انتابته حالة من «الكبت الفنى» (ليس الكبت الذى يعنى الحرمان، بل تراكم الطاقات)، وكان لا بد من عودة أحدهما إلى «شلشلمون»، حيث كانا يدرسان فى القاهرة. وبما أن حمدى موفق فى دراسته فى معهد التمثيل، عاد عبدالله إلى القرية، حيث قضى هناك ست سنوات قبل أن ينجح هو الآخر فى الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية. وخلال هذه الفترة سافر حمدى إلى فرنسا ضمن بعثة المعهد وعاد من هناك ليجد عبدالله أسيراً لسيرة أدهم الشرقاوى، متقمصاً شخصيته. تحول عبدالله إلى ابن ليل، وأصبح صداعاً فى رأس شقيقه الأكبر «رمزى» الذى كان يشغل منصب العمدة. ذات يوم سأله حمدى: هل تريد الالتحاق بمعهد التمثيل؟. فأجابه: جداً. فاتفق حمدى مع أستاذه زكى طليمات -عميد المعهد آنئذ- على عقد امتحان ودى لشقيقه لا يحضره سوى ثلاثتهم، فإذا ثبت أنه موهوب التحق بالمعهد، وإذا فشل يعود إلى شلشلمون. أدى عبدالله مقطعاً من رائعة شكسبير (الملك لير) وعبّر طليمات عن إعجابه محذراً حمدى: «سيكون خطراً عليك أنت شخصياً».. وقد كان.

■ ■

التحق عبدالله بمعهد الفنون المسرحية وتخرج فيه عام 1956. لم يكن هناك سوى المسرح القومى الذى كان يحاول دعم صفوفه بعناصر شبابية إلى جانب عتاولة مثل جورج أبيض ويوسف وهبى وحسين رياض وأحمد علام وفؤاد شفيق، وكان لعبدالله شرف الانضمام إلى هذه الكوكبة، لكنه اتُهم بدخول المجال عبر وساطة شقيقه حمدى الذى أصبح مخرجاً مسرحياً، وأكد حمدى التهمة بمنح شقيقه أكثر من فرصة، ثم انطلق الفتى كالفرس الجامح: أربعون مسرحية وستون مسلسلاً تليفزيونياً وعشرة أفلام سينمائية، ومن كل هذا الرصيد المشرّف وقف عبدالله غيث أمام دورى «الحسين» فى مسرحية «ثأر الله» لعبدالرحمن الشرقاوى، و«حمزة بن عبدالمطلب»، عم الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، فى فيلم «الرسالة» لمصطفى العقاد.

■ ■

بعد «الرسالة» اتكأت نادية الجندى على موهبته المعتقة وتاريخه المشرّف وورطته فى اثنين من روائعها: «ملف سامية شعراوى» و«عصر القوة». وبسبب مسرحية «ماكبث» اعتذر عن دور فى مسلسل «رأفت الهجان» فعضه الندم وكان حزيناً. ومع أنه اعتبر نفسه «ممثلاً مسرحياً ونجماً تليفزيونياً» فقد وصف التليفزيون بأنه «قطة تأكل أولادها». بعدها رفعت لجنة أجور قطاع الإنتاج أجره من 1400 إلى 1600 جنيه عن الحلقة الواحدة، وكان قد بدأ باثنى عشر جنيهاً أجراً.

■ ■

فى 9 مارس 1993 رحل عبدالله غيث بعد صراع استمر قرابة الشهر مع سرطان كبد ورئة. رحل قبل أن يحقق حلم حياته بتجسيد شخصية «عمر بن الخطاب» فى مسلسل تليفزيونى دينى (ولم يكن ذلك ممكناً على كل حال لأسباب رقابية). رحل قبل أن يشاهد لقطة واحدة من مسلسل «الثعلب» الذى جسد فيه شخصية الرئيس الراحل أنور السادات، وقبل أن ينتهى من تصوير دوره فى مسلسل «ذئاب الجبل»، وهو الدور نفسه الذى رحل صلاح قابيل ولم يكن قد صور من مشاهده سوى 12 مشهداً!.

■ ■ ■

الممثل الوحيد الذى توقف عبدالله غيث أمام موهبته هو «أحمد زكى»، وكان شرقاوياً أيضاً.