الحكومة تزيل 50 ألف فدان مستصلحة بواحة «المغرة» لتعيد استصلاحها والمزارعون: «إزاى يشيلونا عشان يسلموا الأراضى للمستثمرين»

كتب: محمد أبوضيف

الحكومة تزيل 50 ألف فدان مستصلحة بواحة «المغرة» لتعيد استصلاحها والمزارعون: «إزاى يشيلونا عشان يسلموا الأراضى للمستثمرين»

الحكومة تزيل 50 ألف فدان مستصلحة بواحة «المغرة» لتعيد استصلاحها والمزارعون: «إزاى يشيلونا عشان يسلموا الأراضى للمستثمرين»

الرحلة لواحة «المغرة»، ذات الطبيعة الخلابة، وتلك البحيرة التى تستقر فى وسطها، كانت شاقة للغاية، فالطريق غير ممهد، مدق ترابى، بطول يزيد على 80 كيلومتراً، وسط صحراء منخفض القطارة، جنوب مدينة العلمين، بمنطقة وعرة بالغة الصعوبة فى قلب الصحراء الغربية وبها نحو 400 مزارع مقيم، بخلاف العمالة، يزرعون نحو 50 ألف فدان.

{long_qoute_1}

أخذت العربة ذات الدفع الرباعى تنهب بنا الأرض لساعتين كاملتين داخل مدق رملى لا يستوى، يلتوى حيناً وينقطع حيناً آخر، وينحدر لأسفل أحياناً كثيرة، ولم تكن الرحلة تُستكمل لولا وجود سائق بدوى يحفظ ذلك المدقّ وعلى دراية جيدة بدروب الصحراء وردهاتها، استمر المسير حتى ظهور شجيرات صغيرة فى الأفق، وبدا الخضار يشكل لوحة مختلفة مغايرة للمشهد وسط الصحراء المتسعة، هنا تقع واحة «المغرة»، التى عاشت لسنوات غير مأهولة بالسكان، حتى اقتحمها عدد من المستثمرين والفلاحين ليستصلحوا آلاف الأفدنة.

وفى نفس ذلك الطريق الوعر قضى «أحمد نصار»، أحد أصحاب المزارع، يومين كاملين وسط الصحراء بعدما انغمست عجلات عربته فى رمال الصحراء، وهبت عاصفة رملية شديدة منعته من الوصول لمزرعته وظل مستقراً داخل المدق الرملى حتى انتهت العاصفة بعد يومين، وبمرور أحد شيوخ البدو بالمنطقة ساعده فى العودة: «بقالنا سنين نتمنى طريق سليم ويوم ما يفكروا يعلموه يطردونا بره». «نصار»، الذى حط الشيب على رأسه مبكراً، شاب ثلاثينى، قرر أن يقتحم الصحراء ليجد ما يتركه لأولاده، بعدما هجر مهنته بالمحاماة، ليعمل فى استصلاح الأراضى وزراعة الصحراء، ولكن رغم كل ما مر به من صعوبات على مدار 11 سنة من العمل الشاق فى ظروف صعبة للغاية، لم تكافئه الحكومة عما اقترفه من عمل، ولكن «كان جزاؤه جزاء سنمار»، حيث دخلت حملة أمنية بمجنزراتها وجرافاتها لتدمر مزرعته الأثيرة، وتهدم ما بناه فى سنوات من الشقاء، حسب روايته.

«المنطقة قاحلة صحراء جرداء لا توجد بها لا شبكة محمول ولا كهرباء ولا شبكة مياه ولا طريق ممهد، ولا يمكن المرور فيها بدون دليل بدوى»، يقول «نصار» واصفاً وضع المنطقة حينما وطأت قدماه فيها للمرة الأولى عام 2005، ولكن كل تلك الصعاب لم تثنه عن الإصرار على استصلاح الأرض التى «وضع يده» عليها بعدما دفع مبالغ مالية لقبائل البدو بالمنطقة، حتى لا يكون هناك عليها أى نزاع، مؤمناً أن ما فعله قانونى: «أنا دارس قانون وفاهم»، مشيراً إلى أن تلك هى الطريقة المتبعة فى استصلاح أرض المنطقة، «اللى عملناه مش جديد هنا بتاخد الأرض من البدو بنظام وضع اليد وبعدين تروح لهيئة التعمير والتنمية الزراعية عشان تقنن الموضوع» ويتابع قائلاً: «إحنا اشتغلنا قانونى وورقنا سليم».

«الدولة لم تضع يدها فى المنطقة بأى خدمات» يقول «نصار»، مشيراً إلى أنهم من كانوا السبب فى تحويل المنطقة إلى هذا الشكل التى هى عليه الآن من تمهيد المدقّ وحفر الآبار بالجهود الذاتية، وبناء محطات طاقة شمسية لتوليد الطاقة الكهربية، بجانب بناء محطة معالجة لضخ مياه الشرب ليستطيع العمال والمزارعون البقاء فى المنطقة، فى محاولة لتحويل المنطقة التى لم تكن مأهولة بالسكان لعقود لمنطقة يستطيع الإنسان العيش فيها، ولكن كل ذلك لم يأت ثماره بعدما دمرتها الحكومة.

■ الطريق للتقنين

يشطر المدق الرملى المنطقة المزروعة إلى نصفين، وداخل إحدى تلك المزارع يجلس أحمد عبدالعزيز، ويقول، لـ«الوطن»: «وفق سلو بلدنا البداية دايماً من عند البدو»، الرجل تعرف على الواحة من خلال أحد أقاربه وقرر حينما جاء إليها استصلاح تلك المساحة التى يتمدد بداخلها الخضار أمام عينيه، بعد تسوية أموره مع البدو أولاً.

ويروى «عبدالعزيز» أنه دفع ما اتفقوا عليه مع قبائل البدو الثلاث القاطنة للمنطقة «بلوزة»، «الشباطى»، «الجلاولة»، لمنع أى نزاع مستقبلى على قطعة الأرض، وأخذ فى وضع يده على الأرض، وقبل أن يبدأ فى استصلاحها توجه لوزارة الزراعة وليتقدم لهيئة التعمير والتنمية الزراعية بطلب تقنين لوضع اليد، وبالفعل فتحت الدولة باب التقنين فى عام 2012، حسب روايته، إبان حكم المجلس العسكرى، ولم يكن وحده ولكن تقدم برفقة ما يزيد على80 شخصاً آخرين شكلوا جمعية ليكون التقدم بشكل جماعى، وبالفعل قُبل الطلب، ودفع 1000 جنيه عن كل فدان كجزء من حساب الأرض. من هنا بدأ «عبدالعزيز» ورفاقه فى تأسيس شركة للاستصلاح الزراعى، والشروع فى استصلاح الأرض، فى ظل شعور دائم بأن ما يطمحون إليه بدأ يتحقق من خلال الطرق القانونية والمشروعة، مستنداً إلى نص «القانون رقم 143 لسنة 1981 بشأن الأراضى الصحراوية»، الذى ينص فى المادة 13 منه: «يكون استغلال الأرض عن طريق تأجيرها لمدة 3 سنوات فإذا ثبت الجدية فى الاستصلاح خلالها تملك الأرض لمستأجرها بقيمتها قبل الاستصلاح والاستزراع مع خصم القيمة الإيجارية المسددة من ثمن الأرض»، ومرت الثلاث سنوات وكان الرجل فى انتظار حصوله على عقود التملك بعد زيارة لجنة من وزارة الزراعة، لتشاهد الصحراء التى تحولت إلى خضار فى غضون 3 سنوات.

وظل «عبدالعزيز» ورفاقه يترددون على الهيئة، لدفع بقية المبلغ، والحصول على عقود التقنين النهائية للأرض، وكانت الهيئة فى كل مرة ترد: «يا عم ازرع وقريب هنبعت اللجنة». ويقول «عبدالعزيز»: «طبعاً أنا قلت يوم الحكومة بسنة ومفيش مشكلة، ودية الإجراءات الرسمية ولازم تاخد وقتها»، ويتابع: «لكن فى عام 2015 أعلنت الدولة عن تدشين مشروع المليون ونصف مليون فدان، وأنها ستطرح أرضاً للتخصيص ضمن المؤتمر الاقتصادى، فتقدمنا بطلب آخر ليكون لنا تخصيص وضمنا فيه أننا لنا طلب بالتقنين قلنا يمكن يكون التقنين أسرع».

توجه «عبدالعزيز» لهيئة التعمير والتنمية الزراعية، والتقى أحد المسئولين الكبار فى الهيئة وكان مسئولاً وقتها عن المشروع، وطلب منه إحداثيات الأرض، وحينما أخبره بها قال له: «الأرض بتاعتكو شركة سعودية هتاخدها»، قابل الرجل ذلك الحديث بغضب شديد قائلاً: «انتوا بتبيعوا الأرض مرتين»، فما كان من المسئول إلا أن قال بصوت هادئ: «روح للشركة السعودية وهما هيرضوك وهيدوك اللى فيه النصيب»، حسبما روى «عبدالعزيز» لـ«الوطن».

ومع مرور الوقت شكلت الهيئة ما اسمته بـ«الريف المصرى» لكى يتولى مسئولية تخصيص أرض مشروع المليون ونص مليون فدان، الذى وضع بداخلها أراضى الواحة، فتوجه «عبدالعزيز» إلى وزارة الزراعة يطالبها بإرسال أوراقهم للريف المصرى، لمنع تخصيص أراضيهم التى دفعوا تحت حسابها مبالغ مالية لهيئة التعمير، ولكن قوبل طلبه بالرفض قائلين حسب روايته: «معندناش تعليمات بكده».

مر الوقت حتى فوجئ «عبدالعزيز» وأصحاب المزارع بالواحة، والذين كانوا فى انتظار طيلة تلك السنوات لجنة وزارة الزراعة لتقييم الأرض وإنهاء عملية التقنين، بلجنة إزالة بعد ضم الأراضى إلى مشروع المليون ونصف المليون فدان، معتبرة المستصلحين فى المنطقة ضمن المتعدين على أراضى المشروع، الذين أعلن عنهم الرئيس عبدالفتاح السيسى، وطالب بضرورة إزالتهم.

فى ساعات الظهيرة، اعتاد «جمعة محمد» أن يغفو قليلاً، ولكن أمس، صحا على صوت صخب وأصوات عالية وصوت عجلات الجرافات تقرب من تلك الغرقة التى بناها صاحب المزرعة لكى يعيش فيها العاملون فى استصلاح الأرض، خرج الرجل مسرعاً ليجد أن بوابة المزرعة وقد حطمتها آليات الإزالة، توجه الرجل على الفور يحمل بين يديه أوراق التقنين، ولكن دون جدوى، الضابط الموكل بإجراء الإزالة لا يسمع ولا يرى ولا يتحدث مع أحد، كلمات قليلة قالها: «دى تعليمات أنا ماليش دعوة». ظل «جمعة» يتابع عمليات الإزالة التى تدمر كل شىء فى المزرعة، ولا يستطيع أن يتحرك «ما يقدر على القدرة غير ربنا حد هيقف فى وش الحكومة؟» هكذا قال «جمعة»، وأضاف أنه استأجر قطعة من أحد ملاك تلك الأرض، والذى امتلك، حسب روايته، أوراق تقنين ابتدائية، جاء الرجل على ظلال إعلان علقه على جدران المنازل فى بلدته بالمنوفية يدعو الفلاحين لاستئجار إحدى قطع الأرض بالصحراء، وقال «جمعة»: «لو الراجل ده متعدى على أرض الدولة إزاى سايبينه يأسس شركة استصلاح ويعمل إعلانات لتأجير الأرض ممكن أفهم؟»، يصمت برهة ويعود ليقول: «وإزاى يطلعوا ترخيص للبير إللى دقيته فى الأرض وحيازة زراعية للأرض.. هى دى مش ورق بيطلع من الدولة برده؟».

■ تدمير محطة مياه الشرب

فناطيس المياه صارت حطاماً، المواسير المقطعة تتناثر أجزاؤها هنا وهناك، وجدران مهدمة، الدمار يحل على المكان، وآثار عجلات الجرافات مخطوطة على رمال الصحراء، أمام بوابة محطة تحلية مياه الشرب، التى دمرتها عمليات الإزالة.

عصام إبراهيم، بجسدٍ نحيل، ووجه لوحته الشمس، جاء إلى المنطقة منذ 5 سنوات، ليعمل بمحطة تحلية المياه، التى تقدم مياه الشرب لقاطنى الواحة، ولكن اليوم انقطع عيشه، بعدما طال المحطة الدمار، ويقول لـ«الوطن»، إن أكثر من نصف المحطة قد طالها الدمار، والتى تكلف إنشاؤها أكثر من 600 ألف.

«أنا كنت بوزع حوالى 10 طن ميه يومياً، لأكثر من 20 مزرعة فى المنطقة» قال «إبراهيم»، مشيراً إلى أن محطته كانت مصدر المياه العذبة الوحيد، لأن المهندس الذى أنشأها اعتمد فيها على وسائل التحلية الحديثة التى تقوم على أسس علمية، وهو ما جعلها مقصداً لجميع أهل المنطقة لكى يرووا ظمأهم فى تلك الصحراء القاحلة، وتابع «إبراهيم»: «فى ناس كتير هتسيب شغلها فى الواحة، كان بيعتمدوا بشكل أساسى على المحطة فى مية الشرب».

يتحرك «إبراهيم» ما بين حطام المحطة، واصفاً عملية هدم محطة المياه قائلاً: «كنت كل ما أروح ألحق لودر هناك ألقى لودر تانى بيهد هنا.. دمروا الدنيا ماسابوش شىء سليم المولد والخزانات ومواسير الميه وكل حاجة»، مشيراً إلى أن المحطة كانت تقدم مياه الشرب للأهالى دون مقابل، وكانت تتحصل على رسوم فقط من أصحاب عربات الفنطاس الذين يبيعون المياه للمزارع.

■ حديث الرئيس وزيارة وزير الزراعة

بجوار إحدى البوابات المحطمة، يجلس أحمد خليل، يعمل على جرار زراعى، يقول إنه شارك فى زراعة أكثر من 500 فدان خلال عمله فى تلك الشركة التى يعمل بها منذ مجيئه للواحة قبل 4 سنوات مقبلاً من قريته بكوم حمادة بالبحيرة.

يتذكر «خليل» ذلك اليوم الذى جاء فيه وزير الزراعة الأسبق أيمن فريد أبوحديد، للمنطقة وافتتاح أكبر مشروع للزراعة من خلال الطاقة الشمسية فى المنطقة بزراعة 10 آلاف فدان، وهو نفسه المشروع التى تزيله الدولة الآن بجرافتها، ويقول لـ«الوطن»: «فاكر كويس كان فى فبراير 2014، ونقلت الزيارة كل نشرات الأخبار والصحافة»، وتحدث الوزير وقتها حسب رواية «خليل» أنه أكبر مشروع لاستصلاح أرض صحراوية بالشرق الأوسط من خلال محطة طاقة شمسية، ويتكلم بتلعثم شديد من وطأة الخوف الذى داهمه مع الجرافات وآلات الإزالة، ويقول إنه تابع حديث الرئيس حين خرج فى التليفزيون خلال افتتاح مشروع المليون ونصف فدان، وقال إن هناك متعدين على أرض المشروع بعد الإعلان عنه، ودافع قائلاً: «إحنا مش متعدين إحنا موجودين هنا من 6 سنين والأرض دى استصلحناها وماشيين فى طريق التقنين مع الدولة ودفعنا فلوس، إزاى تساوينا باللى حط إيده على الأرض بعد ما أعلنوا عن المشروع».


مواضيع متعلقة