«منشأة سليمان»: 2500 مصاب بفيروس «سى».. و29 «سرطان».. و23 «فشل كلوى» و5 «أنيميا».. و39«صرع».. و«الصحة» فرضت عليها حجراً بسبب تفشى «التيفود»

كتب: رفيق ناصف وأحمد فتحى

«منشأة سليمان»: 2500 مصاب بفيروس «سى».. و29 «سرطان».. و23 «فشل كلوى» و5 «أنيميا».. و39«صرع».. و«الصحة» فرضت عليها حجراً بسبب تفشى «التيفود»

«منشأة سليمان»: 2500 مصاب بفيروس «سى».. و29 «سرطان».. و23 «فشل كلوى» و5 «أنيميا».. و39«صرع».. و«الصحة» فرضت عليها حجراً بسبب تفشى «التيفود»

«منشأة سليمان»، قرية تبعد 60 كيلومتراً فقط عن مدينة طنطا بالغربية، وتقع فى منطقة حدودية منسية بينها وبين محافظة المنوفية، فلم تتذكرها الحكومة إلا مرة واحدة، عندما فرضت وزارة الصحة عليها حجراً صحياً فى عام 2003، بعدما تفشى مرض «التيفود» فيها، ثم عادت لتنساها مجدداً، حسبما يقول الأهالى.

{long_qoute_1}

«الحكومة لا تعرف عنا شيئاً»، ستسمع هذه الجملة فى كل خطوة تخطوها داخل «القرية المنكوبة»، حسبما يطلق عليها الأهالى، الذين يشكون انعدام الخدمات، وتفشى الخدمات، فلا يوجد صرف صحى ولا مياه شرب ولا طرق، وإنما أمراض تسرى فى الدم، فتخطف الأطفال من أحضان الأمهات، وتسحب «العافية» من الشباب، تاركة خلفها أحزاناً فوق طاقة مقابر القرية.

«29» مصاباً بالسرطان، و«23» بالفشل الكلوى، و«5» بالأنيميا التكسيرية، و«2500» بفيروس «سى»، و«39» بالصرع، إضافة إلى أعداد لا تُحصى من مصابى «التيفويد»، تُلخص هذه الأرقام بدقة شديدة حال قرية «منشأة سليمان»، المنسية حكومياً، حسب الأهالى، فلا محافظة الغربية تتذكرها، باعتبارها واحدة من قرى مركز كفر الزيات، ولا محافظة المنوفية تعرفها، باعتبارها تقع على حدودها مباشرة.

{long_qoute_2}

«الوطن»، زارت القرية المنكوبة بنسيان الحكومة، وبدأت الرحلة من المصرف الشرقى للقرية، المصدر الرئيسى للأوبئة والأمراض، فالمشهد الأبرز على جوانب المصرف، كان مشهد إلقاء جرارات الصرف الصحى المخلفات فيه، بينما يبتسم سائقوها لنا، ويلقون التحية ببساطة، ثم يعودون إلى إكمال عملهم، وهو إفراغ السموم فى أحد الشرايين الرئيسية بالقرية.

بابتسامة بريئة، استقبلتنا الطفلة «نهاد مدكور»، البالغة من العمر 8 سنوات، ثم اختفت الابتسامة بعد لحظات، عندما بدأت فى الحديث، قائلة: «نفسى أكون كباقى زملائى، آكل وألعب، دون المزيد من الحقن»، ثم صمتت لتُكمل الأم قائلة: «قبل تناول جرعة العلاج فى نهاية كل شهر، تظهر على «نهاد» أعراض المرض، اصفرار الوجه، والضعف العام، وضيق التنفس، والصداع، والدوخة، ووقتها يقول لها زملاؤها إن شكلها أصبح قبيحاً، لذلك تقول دائماً إنها تريد أن تصبح مثل باقى زملائها». وبدأت أعراض «أنيميا البحر المتوسط» فى الظهور على «نهاد» منذ 3 سنوات، وحسب الأم: «فى البداية اعتقدنا أنها مصابة بنقص الحديد، لكننا فوجئنا بأنها تعانى من أنيميا البحر المتوسط، الأكثر خطورة، ووقتها أخبرنا الطبيب بأنها تحتاج إلى تغيير الدم بالكامل شهرياً، مما تسبّب فى أعراض جانبية أكثر خطورة، بينها زيادة نسبة الحديد فى الدم، لأن معظم المتبرّعين من كبار السن، ونضطر إلى علاجها بأدوية لخفض نسبة الحديد، إلا أنه يؤثر على الكبد والطحال». {left_qoute_1}

ونتيجة نقل الدم المتكرر، أصيبت «نهاد» بفيروس «سى»، بسبب عدم تحليل دم المتبرعين أولاً، نظراً إلى ارتفاع تكلفته، التى تصل إلى 600 جنيه للكيس الواحد. وتشير الأم إلى أن «غالبية الحالات المشابهة لـ«نهاد» فى القرية أصيبت بفيروس سى، ونحن أسرة فقيرة، ولا نستطيع تحمُّل تكلفة إجراء عملية لزراعة النخاع فى الخارج».

ولا يختلف كثيراً حال الشقيقين «ياسمين» و«رمضان»، 8 سنوات، و«أنس»، عامان، فكلاهما أصيب بـ«الأنيميا التكسيرية»، ثم فيروس «سى»، وحسب الأم «مها طلعت»: «أصيبت «ياسمين» بالأنيميا التكسيرية قبل أن يتجاوز عمرها 40 يوماً، وبعد 5 سنوات من المعاناة ونقل الدم المتكرر، تم استئصال الطحال لها، وأصيبت بفيروس سى، نتيجة عدم وجود جهاز لتحليل الفيروسات الكبدية فى المستشفيات التابعة لجامعة طنطا».

وأشارت الأم إلى أن الأهالى توجّهوا بالكثير من الشكاوى إلى مديرية الصحة، دون أن يتلقوا أى رد، موضحة أن «غالبية الأطفال الذين كانوا ينقلون دماً، أصيبوا بفيروس سى، وكأنها ضريبة للعلاج من الأنيميا، فابنى «أنس» أصيب بالأنيميا التكسيرية فور ولادته، ويمر الآن بالخطوات نفسها لعلاج شقيقته الكبرى، بعدما لحقها فى الإصابة بفيروس سى، لذلك نطالب بأن توفر الدولة العلاج من الأنيميا على نفقتها، نظراً إلى ارتفاع تكلفته، فهناك نوعان من الدواء، الأول هو (ديسفرال) بـ300 جنيه، والثانى هو (ساجيك)، ويصل سعر الجرعة إلى 4 آلاف جنيه».

وبمرض «أنيميا البحر المتوسط» نفسه، أصيب الطفل «أحمد سمير البرعى»، 8 سنوات، قبل أن يضطر الأطباء إلى استئصال الطحال له، نظراً إلى تضخمه بسبب ارتفاع نسبة الحديد فى الدم، ثم أصيب بفيروس سى، وتقول والدته «لمياء» إن «أحمد أصيب بالأنيميا منذ 7 أشهر، وننقل له الدم شهرياً، وتصل تكلفة العلاج إلى 3 آلاف جنيه شهرياً، إضافة إلى أشعة وتحاليل بقيمة 2000 جنيه».

ويعتبر المصدر الرئيسى للأمراض فى القرية هو مياه الشرب، التى تصل إلى الأهالى فى شبكة متهالكة. ويقول المدرس «سلطان إسماعيل»: «مياه الشرب هى المصدر الرئيسى للسرطان، والتيفويد، والفشل الكلوى والكبدى، فهى إما مختلطة بالمخلفات الصناعية والكيماوية، أو ملوثة بالميكروبات والشوائب، مما يظهر فى تغيُّر اللون والرائحة، وبجانب مياه الشرب، نعانى من أزمة رى المحاصيل بمياه المجارى».

وأضاف «إسماعيل»: «الحكومة لا تعرف عنا شيئاً، ولا توجد أى علاقة لنا بها، فنحن نعيش دون مياه شرب نظيفة، أو شبكة صرف صحى، أو وحدة صحية، رغم أن القرية يسكنها 22 ألف نسمة»، مشيراً إلى «الموقع الجغرافى للقرية هو سبب نكبتها، فهى تقع على الحدود بين محافظتى الغربية والمنوفية، مما جعلها تسقط من حسابات المسئولين فى المحافظتين، فلم يزُرها أى مسئول من سنوات، لبُعدها عن مدينة كفر الزيات، وعدم وجود طرق ممهّدة فيها، فالدخول إليها يجب أن يكون عبر قرية تابعة لمحافظة المنوفية».

وأوضح أنه «فى عام 2003، تقدّمنا باستغاثة إلى وزارة الصحة، بعدما انتشر التيفويد فى القرية، ووقتها أثبتت اللجنة المشكلة من الوزارة فى تقرير رسمى، ارتفاع نسبة ثانى أكسيد المنجنيز فى المياه الجوفية. وأوصت بالتوقف عن استخدام الطلمبات الحبشية، التى لجأ إليها الأهالى، لأن محطة المياه الموجودة على فرع النيل برشيد تنقل إليهم مياهاً غير صالحة للاستخدام، واضطر الكثير من سكان القرية إلى شراء المياه من محطات التنقية الأهلية».

وكشف «أحمد محمد»، أحد سكان القرية، عن توجّهه لتحليل عينة من مياه محطة الشرب فى معمل تابع لكلية العلوم بإحدى الجامعات المصرية، وجاءت النتائج لتؤكد أنها ملوثة بالمخلفات الصناعية، التى تلقيها المصانع فى النيل مباشرة دون معالجة، مما تسبّب فى انتشار الأمراض المزمنة والقضاء على الثروة السمكية.

وأشار إلى أن الأهالى غير القادرين على شراء المياه من محطات التنقية اضطروا إلى دق طلمبات حبشية فى منازلهم، مما تسبّب فى زيادة معدلات الإصابة بالفشل الكبدى والكلوى والتيفويد، وعند تحليل مياه هذه الطلمبات تبيّن ارتفاع نسب الحديد والرصاص والزنك والمنجنيز فيها، نظراً إلى اختلاط المياه الجوفية بمياه الصرف الصحى.

وأضاف، «محمد»: «حتى إذا تمكن الأهالى من حل مشكلة مياه الشرب عبر جمع تبرعات لإنشاء محطات تنقية، فإن المشكلة الأبرز التى تبقى أمامهم هى عدم وجود مياه صالحة لرى الأراضى الزراعية، نظراً لوقوع القرية فى نهاية إحدى الترع، لذلك يضطر المزارعون إلى استخدام مياه الصرف الصحى، التى يتخلص منها الأهالى بإلقائها فى المصرف الشرقى، لأن القرية التى يسكنها نحو 22 ألف نسمة، لا توجد فيها شبكة صرف صحى».

المفاجأة التى يُفجّرها المزارع «إبراهيم محمد»، أن جميع أهالى القرية يرفضون تناول محاصيلهم المروية بمياه الصرف الصحى، خوفاً على صحة أطفالهم، ويتوجهون لبيعها فى مناطق بعيدة، للهروب من المسئولية فى حالة حدوث أى إصابات بين المواطنين بسببها، لافتاً إلى أن المزارعين لم يفطنوا إلى خطورة هذه المحاصيل إلا بعد انتشار الأمراض فى القرية. ورغم إصابة الشاب «سامح المصرى» بالفشل الكلوى، فإن الأمل لم يفارقه فى تحسين الأوضاع داخل القرية، على حد قوله، بينما يؤكد أن «القرية تحولت إلى مستوطنة للأمراض، فلا يوجد منزل واحد فيها تقريباً يخلو من مريض، وقبل ثورة 25 يناير أرسلنا الكثير من الاستغاثات إلى وزارة الصحة، التى فرضت حجراً صحياً على القرية، نتيجة انتشار التيفويد، وجاءت التحاليل لتكشف أن سبب تفشيه هو تلوث مياه الشرب، وتم إنشاء محطة جديدة لمياه الشرب، فإنها لم تقضِ على المرض، لأن المياه التى تصل إلى المنازل ما زالت محمّلة بالشوائب وكريهة الرائحة».

وقال المزارع «فرج. ش»، إن ابنته «أمل»، ذات الـ23 عاماً، توفيت قبل أيام قليلة من إتمام زفافها، نتيجة إصابتها بالفشل الكلوى، حيث كانت تجرى غسيلاً كلوياً فى مستشفى طنطا الجامعى 3 مرات أسبوعياً، موضحاً أنه «قبل زفافها بأيام قليلة، شكت «فرح» من إرهاق شديد، وآلام متواصلة فى الكلى، مما أثر على حالتها النفسية، قبل أن تتوفى». وأكد سكرتير عام محافظة الغربية، اللواء السيد سعيد، أن «المحافظة تولى اهتماماً كبيراً بالقرى والنجوع، لتطوير الطرق، وإدراجها فى مشروعات الصرف الصحى ومياه الشرب، وبينها قرية منشأة سليمان، التى أُدرجت ضمن خطة إنشاء محطات الصرف الصحى بالمحافظة». وأوضح أنه «توجد لجنة مشكّلة لزيارة القرى والنجوع والعزب الأكثر احتياجاً، للتعرف على مشكلاتها، والعمل على حلها، كما يوجد تنسيق مع جامعة طنطا لتنظيم قوافل طبية لها، بهدف الكشف الطبى على المواطنين بها». وأشار وكيل وزارة الصحة فى الغربية، الدكتور محمد شرشر، إلى أن «إصدار الوزارة توجيهات للمديريات والإدارات الصحية للمرور باستمرار على جميع وحدات طب الأسرة فى القرى، لمتابعة الخدمات الطبية المقدمة للمواطنين، وتتّخذ المديرية إجراءات صارمة ضد المتقاعسين من مقدمى الخدمة الطبية، سواء أطقم التمريض أو الأطباء». وأضاف أن «المديرية تُشدّد على أهمية رفع كفاءة الخدمة الطبية والرعاية الصحية المقدّمة للمرضى، وإعداد بيان بالأجهزة والمعدات الطبية التى تعمل بصورة جيّدة، ورصد إحصائى لاحتياجات المرضى من مستلزمات طبية وأجهزة علاجية، تمهيداً لتلبيتها فى المرحلة المقبلة، ونعتزم إعداد تقرير شامل عن جميع وحدات طب الأسرة المؤهلة، لأن تصبح مستشفيات تكامل، ثم رفعه إلى الوزارة للبت فيه».

 

 

 


مواضيع متعلقة