سد النهضة وأمل معقود

بعد سنة ونصف من الاجتماعات المتتالية للجنة الثلاثية، وبعد تدخل وزير الخارجية المصرى وحضوره اجتماعين متتاليين من هذه المباحثات الماراثونية، تم اتفاق بين مصر والسودان وإثيوبيا على اختيار شركتين فرنسيتين لإعداد الدراسات الخاصة بتداعيات سد النهضة السلبية على دولتى المصب من النواحى الكهرومائية ومعدلات تدفق مياه النيل والجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وأعدت الشركتان العرض المالى والفنى، وكان للمفاوض المصرى ملاحظات مهمة على عرضهما الفنى تختص بصميم الغرض من الدراسات وهو التوصل إلى سياسات تخزين وتشغيل لسد النهضة تحد من آثاره السلبية على كل من مصر والسودان. وللأسف اعترضت إثيوبيا على الملاحظات المصرية، ويشاع أنّ السودان أيضاً قد أيدت إثيوبيا فى اعتراضاتها، وعلى ضوء هذه الاعتراضات توقفت الاجتماعات الثلاثية الفنية. وهذا التوقف لم يُثن إثيوبيا عن الاستمرار فى بناء السد، بل أعلنت أخيراً أن ارتفاعه قد وصل إلى سبعين متراً، وأضافت بأنها أتمت استعداداتها للبدء فى ملء المرحلة الأولى من السد خلال موسم الفيضان المقبل. والملاحظات المصرية ليست معقدة وليست مبالغاً فيها بل كانت بسيطة ومباشرة حيث طالبت الاستشارى بالالتزام فى عرضه الفنى بالشروط المرجعية للدراسات التى كانت أعدتها اللجنة الثلاثية الدولية فى 31 مايو 2013، ووافقت عليها الدول الثلاث مجتمعة. ومن الجلى للجميع أن هذا التعنت الإثيوبى السودانى غير المبرر لا يهدف إلا لإهدار الوقت وتفريغ الدراسات من مضمونها. والتساؤل المهم لمصر وشعبها هو: هل بالفعل السودان ساندت إثيوبيا فى رفضها للملاحظات المصرية، وما الأسباب التى دعتها لذلك التصرف؟.

وكما تعودنا فى الشهور الأخيرة تم تكليف وزير الخارجية المصرى (الناجح والنشط) للقيام بزيارة إلى السودان فى 20 مارس 2016، واجتمع هناك بوزير الرى السودانى لإيجاد مخرج من هذه الأزمة المصطنعة. وبعد هذه الزيارة خرج علينا الإعلام بأخبار عن زيارة رئاسية محتملة للسودان، وأخرى عن اجتماع قريب لرؤساء الدول الثلاث لوضع حد لهذه المشكلات المتتالية. وفى تصورى أن هذه المشكلة لن تكون آخر المشكلات وستظهر أخرى فى المستقبل المنظور بهدف عرقلة مسار الدراسات حتى تنتهى إثيوبيا من بناء السد بشروطها كاملة وبدون تنفيذ التزاماتها التى وردت فى إعلان المبادئ. ومع أمل الوصول قريباً إلى توافق الدول الثلاث حول العرض الفنى للاستشارى، فسوف يتم توقيع عقد الاستشارى فى أبريل المقبل، ومن المتوقع ألا تبدأ الدراسات قبل أول شهر يونيو، أى مع حلول موسم الفيضان المقبل وافتتاح المرحلة الأولى للسد. وكانت مصر قد طالبت إثيوبيا بعدم البدء فى تخزين مياه أمام السد إلا بعد الانتهاء من الدراسات، وذلك التزاماً بما جاء فى إعلان المبادئ، ولكن إثيوبيا قابلت هذا الطلب المصرى بالرفض كالعادة، وإثيوبيا ما زالت تخطط للبدء فى التخزين خلال الفيضان المقبل. إن هذا الموقف الإثيوبى سوف يفرّغ إعلان المبادئ من الميزة الوحيدة التى جاءت فيه لصالح مصر، والمتمثلة فى بنده الخامس «مبدأ التعاون فى الملء الأول وإدارة السد»، مما يهدد بظهور مشاكل مؤثرة تهدد مسار المباحثات الحالى. إن الموقف الإثيوبى يتعارض مع جميع المبادئ والقوانين الدولية بل حتى مع المنطق البسيط. فكيف تتفق الدول الثلاث على إجراء دراسات لتحديد عدد سنوات ملء السد وسياسات تشغيله، وإثيوبيا تصمم على ملء السد حتى قبل البدء فى الدراسات؟ هذا السلوك الإثيوبى يمثل تقويضاً كاملاً لإعلان المبادئ بل هو إعلان رسمى عن فشل المباحثات الثلاثية. وستكون هناك أيضاً مشاكل عديدة أثناء قيام الاستشارى بالدراسات ونذكر منها على سبيل المثال: مشكلة توفير البيانات اللازمة للاستشارى للقيام بالدراسات واستهلاك الوقت، مشاكل ما بين الاستشارى والدول الثلاث حول نوع وفرضيات النماذج الهيدرولوجية والهيدروليكية المستخدمة فى الدراسات، مشاكل حول تفسير نتائج تطبيقات النماذج وسيناريوهاتها، خلافات بين الدول الثلاث حول بدائل ملء السد وسياسات التشغيل. والدراسات (إن استكملت) سوف تستغرق فى رأيى فترة لن تقل عن سنتين فى أحسن الظروف، تكون إثيوبيا أثناءها قد انتهت من بناء السد بكامل سعته التخزينية، ولن يكون هناك إمكانية للتفاوض حول تقليل السعة أو الارتفاع كما كان يأمل ويصرح وزير الرى السابق. وحتى بعد الانتهاء من الدراسات سيكون التفاوض بين الدول الثلاث حول نتائج الدراسات فى منتهى الصعوبة، وذلك لعدم النص فى إعلان المبادئ على مرجعية لتقييم أضرار سد النهضة. وستحدث خلافات بين مصر وإثيوبيا حول مقدار الضرر وطريقة قياسه وتقديره. إثيوبيا لن تقر بأن أى نقص فى حصة مصر يعتبر ضرراً لأنها لا تعترف بالحصة من الأصل، ومصر حسب الدستور المصرى لعام 2014 لا تستطيع القبول بنقص فى الحصة التاريخية. وكلما استمرت مصر لفترة أطول فى هذا المسار وبدون وضع حلول لهذه المشاكل المحتملة، كان صعباً عليها تصحيح المسار أو الخروج منه، أو تقليل أضرار السد.

وننهى هذا المقال بإشراقة أمل وهو خبر الإطاحة بوزير الرى السابق الذى كان فى رأيى مسئولاً عن العديد من العثرات التى مرت بها المباحثات، ونشكر السيد الرئيس على الاستجابة لطلبات تغييره للصالح العام ولصالح قضية سد النهضة. وقد تم اختيار الدكتور محمد عبدالعاطى رئيس قطاع مياه النيل السابق وزيراً جديداً للموارد المائية والرى. والوزير الجديد له خبرة جيدة بإثيوبيا وعمل فى مكتب النيل الشرقى بأديس أبابا، وأيضاً شارك فى بعض الاجتماعات الأولى للجنة الثلاثية، وحضر بعض اجتماعات مجموعة حوض النيل المصرية. إن الوزير الجديد يواجه أزمات صعبة ومهام ثقيلة ومتعددة تشمل إعادة تنظيم البيت الداخلى الذى عانى كثيراً فى ظل الإدارة الماضية، وهناك العديد من المشاكل الداخلية المتعددة فى منظومات الصرف والرى، وتعديات على المجارى المائية، ومشاكل مخرات السيول، والحفاظ على مواردنا المائية المحدودة من الاستنزاف والتلوث، بالإضافة إلى المشكلة المعقدة لأزمة سد النهضة والسدود الأخرى المزمعة فى أعالى نهر النيل. إن مجموعة حوض النيل المصرية سوف تدعم الوزير الجديد بكل قوة، متمنين له النجاح فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من التداعيات السلبية لسد النهضة على مصر.

* وزير الموارد المائية والرى الأسبق