التحريض سمة ترتبط بتركيبة شخصية ذات ملامح محددة، تميل إلى النرجسية (الاحتفاء بالذات)، والتهوين من شأن الآخرين، هذا النوع من الشخصيات يتخيل -وهماً- أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، ولا يؤمن بتلك المقولة التى ردد صاحبها: «رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب». نظرية الاحتمالات ليس لها محل من الإعراب فى تفكير الشخصية المحرِّضة، إذ يسيطر على عقلها وأسلوب تفكيرها سذاجة «اليقين المطلق». ومن يفهم حقيقة الحياة لا بد له أن يدرك أنها محكومة بالاحتمال أكثر من اليقين، وبالنسبى أكثر من المطلق. فكيف يمكن أن تكون مسيرة الإنسان -أى إنسان- فى حياة، وجوده فيها احتمال وخروجه منها احتمال؟
شهوة التحريض سيطرت على بعض السياسيين والإعلاميين خلال السنوات الأخيرة، فخرجت تصريحات وصرخات ودعوات من هنا وهناك تحرض السلطة القائمة على هذا الطرف أو ذاك، من أطراف الاختلاف مع رؤاهم وأفكارهم وآرائهم. والمضحك فى الأمر أن السلطة لو استمعت إلى هؤلاء -وهى فى الأغلب لا تستمع- فإنها ستدخل فى خصومة مع أطراف متعددة، ولن يبقى لها حبيب بعد ذلك، إلا هؤلاء المحرضون، وفى غياب الأطراف التى يمكن التحريض عليها، لن يتبقى أمام المحرضين إلا السلطة. فهل يمكنهم -لا سمح الله- التحريض عليها؟. الإجابة لا، ويكاد هذا الأمر أن يصبح ضرباً من ضروب المستحيل. لأن هؤلاء يجتهدون فى التحريض ويغلقون عقولهم على رؤية أحادية، قناعة منهم بأن ذلك هو ما يرضى السلطة، إذ يرون أن دورهم يتحدد فى النباح على كل من يملك رأياً مختلفاً، أو وجهة نظر مباينة، أو رؤية مغايرة، للسلطة السياسية الحاكمة، وهو الأمر الذى يكشف لك أن أزمة «الشخصية المحرضة» تتجاوز المرض إلى محاولات «التمصلح»، أو قل إن الرغبة العارمة فى حصد المصالح هى التى توقعها فى هذا المرض العضال. فى تقديرى أن المجتمع المصرى لم يكن بحاجة إلى استعادة ذاكرة «السلام النفسى مع الآخرين»، كما يحتاج إليها الآن، لأن هذه الاستعادة هى الكفيلة بالخروج من مأزق «القلق العام» الذى أصبح يسيطر على الكثيرين. ومصدر القلق يتحدد بالأساس فى سيادة تلك «الروح التحريضية» على المشهد العام فى مصر. وهى روح كفيلة بتسييل الأخلاق وإحراق القيم الأساسية التى شكلت على مدار آلاف السنين حصن حماية للمصريين من الوقوع فى محن، ما فتئت الشعوب الأخرى تقع فيها. إننى أنظر إلى حال الشعب العراقى أو اليمنى أو السورى فأشعر بالرثاء، وأظن أن كل المصريين يتشاركون جميعاً فى هذا الإحساس. ويزداد الشعور بالرثاء كلما وجدت المصريين يردون الحالة البائسة التى تعيشها تلك الشعوب إلى عدم امتلاك السلطة هناك لأدوات السيطرة، الأمر الذى ساقها إلى طريق التحارب الأهلى. نعم هذا العامل مهم وقائم، لكن يبقى أن الشعوب هى الأخرى ضالعة فى جانب مما حدث، وأصل الضلوع هنا يرتبط بتراجع الأخلاقيات العامة، وجوهر غياب الأخلاق هنا يرتبط بالرضاء عن سيطرة «ثقافة التحريض» على الواقع. فمن يقبل بها ويرى فيها حلاً يضع نفسه وغيره فى دوائر الخطر، دون أن يدرى. فالمحرض -مثله مثل الجاهل- عدو نفسه.