ينقبض قلبى ويعتصرنى القلق كلما طالعت تصريحاً لمسئول كبير يتحدث فيه عن انتهاء عصر التوظيف فى الحكومة والقطاع العام المملوك للدولة، وأكاد أختنق من فرط الخوف كلما سمعت مسئولاً فى حكومة المهندس إبراهيم محلب، يتحدث فى ثقة مفرطة عن مزايا البحث عن وظيفة فى القطاع الخاص، ومصدر قلقى لا يتعلق فقط بما أعرفه عن تدنى قدرة القطاع الخاص المصرى عن استيعاب المزيد من العمالة، وعن ضعف المرتبات التى يدفعها هذا القطاع لغالبية العاملين فيه، ولكن مصدر القلق الذى يصل إلى حد الرعب يتعلق بما هو معروف فى العالم كله عن «وحشية» هذا القطاع فى التعامل مع عماله وموظفيه، بل واعتبار هذه «الوحشية» هى أهم عوامل نجاح القطاع الخاص فى تحقيق أرباح طائلة.
منذ وقت مبكر جداً بدأ عالم الاجتماع الأمريكى المرموق ألفين توفلر مشروعه الفكرى الكبير بإصدار كتابه الشهير «صدمة المستقبل» عام 1970 تقريباً، ورصد فيه التغيرات العميقة التى عصفت باستقرار الغالبية العظمى من البشر وقضت تماماً على «الإحساس بالأمان» ودمرت قيم الانتماء لأى شىء، وألقت بحشود غفيرة من العمال والموظفين فى براثن الغربة والقلق والوحدة القاتلة، كل هذا بسبب تضاعف سرعة الاستغناء عن الموظفين واضطرار الملايين إلى إنفاق جانب كبير من أيامهم فى البحث عن فرصة عمل جديدة لا تلبث بدورها أن تضيع بعد سنوات أو شهور، وهو ما يؤدى عادة إلى تغيير محل الإقامة وتغيير مدارس الأولاد بين فترة وأخرى، وقد ذهب «ألفين توفلر» آنذاك إلى التأكيد على خطورة بزوغ عصر جديد ستتحول فيه الكتلة العظمى من البشر إلى حشود من «البدو الجدد» المرتحلين خلف الوظائف المؤقتة أينما وجدت، وإلى بزوغ نوع من المشاعر الجديدة أطلق عليها «المشاعر الكلينكس».. فالصداقات وعلاقات الزمالة والحب والجوار وحتى المساكن ستصبح كلها «كلينكس» يستخدمها الإنسان الموظف فى القطاع الخاص مرة واحدة، ثم يلقيها فى أقرب صندوق قمامة.
شىء من هذا القبيل يحدث فى مصر الآن مع غالبية الموظفين والعمال فى القطاع الخاص، وكلما أصبح هذا القطاع أكثر سطوة، زادت قدرته على تهديد استقرار العاملين فيه، ولأن هذا القطاع هو مجرد تابع مشوه للقطاع الخاص فى المركز الرأسمالى الغربى، فقد أخذ منه كل سيئاته وترك محاسنه، لسبب بسيط جداً، هو أن القطاع الخاص المصرى نجح فى تنظيم صفوفه وشكّل اتحادات عديدة مثل الغرف الصناعية والغرف التجارية والمجالس السلعية التصديرية وعشرات الغرف التجارية المشتركة مثل المصرية الأمريكية والمصرية الألمانية.. إلخ. بالإضافة إلى العديد من الاتحادات والجمعيات الأهلية المنظمة والقوية التى تفرض ما يريده القطاع الخاص بالقوة على كل أجهزة الدولة، فى مقابل تجريد العمال والموظفين والمستهلكين من أى اتحادات أو جمعيات تحميهم من «توحش القطاع الخاص».. حتى وزارة القوى العاملة تحولت إلى مدافع شرس عن حق أصحاب الاستثمارات فى فصل وتشريد كل عامل أو موظف يجرؤ على المطالبة بأى حق من حقوقه. كان «ألفين توفلر» ومن بعده عشرات المفكرين فى مجالات الاقتصاد والاجتماع وحقوق العمال، قد انتبهوا إلى أن «البطالة المتصاعدة» وإن كانت تشكل هاجساً مقلقاً للحكومات، فإن القطاع الخاص فى المركز الرأسمالى الغربى يعتبرها «نعمة عظيمة»، إذ يكفى أن يشير المدير التنفيذى لأى شركة إشارة عابرة، وهو يتحدث إلى عماله أو موظفيه، إلى جيش المتعطلين عن العمل الذى يتلهف على أى وظيفة وبأى أجر، لكى يزرع الخوف فى قلوب الموظفين ويجبرهم على قبول تخفيض أجورهم وتقليص مزايا الأمان الاجتماعى والصحى، بل وزيادة ساعات العمل دون أجر إضافى.
وهنا فى مصر يحدث هذا وأكثر منه، فحشود العاطلين عن العمل، والباحثين عن أى وظيفة وبأى أجر، تمثل كنزاً لرجال الأعمال المصريين، وتمثل تهديداً صريحاً لكل العاملين والموظفين فى أبعديات رجال الأعمال.. فمقابل كل موظف أو عامل يفكر فى زيادة أجره أو يطالب بتحويل عقده من مؤقت إلى عقد ثابت، هناك عشرة متعطلين على الباب كل منهم على استعداد للعمل مقابل نصف ما يحصل عليه العامل الذى يشعر بالظلم.
والنتيجة أن شروط العمل فى القطاع الخاص تحولت إلى ورشة ضخمة لصناعة القلق وانعدام الأمان الوظيفى، فلم يعد هناك موظف، مهما كان قدره المهنى أو الحرفى، آمناً على غده، أو واثقاً من استقراره فى هذا العمل لعام أو لعامين أو عدة أعوام مقبلة.. إذ إن معدلات سرعة فقدان الوظائف تضاعفت خلال السنوات الأخيرة، وها هى حشود متزايدة من المصريين تفقد أدنى درجات الأمان والاستقرار، وتفلت تماماً من بين أياديها كل شروط «السيطرة على المصير».. وتلك -فى ظنى- أسرع وأخطر طريقة لتجفيف كل منابع الاستقرار والانتماء.. بل هى أضمن وصفة لتعميق العنف والخراب فى تربة هذا البلد وفى وجدان الكتلة العظمى من المواطنين.