لا أجد غرابة فى تعاطف معظم الناس حالياً مع رجال الداخلية، رغم أن تجبُّر رجال الداخلية كان واحداً من الأسباب المباشرة التى دفعت بالبسطاء للاشتراك فى ثورة يناير، بل إن معظم هتافات «يناير» التى كنا نشد أزر بعضنا البعض بها كانت متحدية لبطش الداخلية، مثل: «اسمعوا يا بتوع الداخلية، اللى بيقتل أهله وناسه.. يبقى عميل من ساسه لراسه»! ولكن عامين من الاحتلال الإخوانى جعلا كلاً من الداخلية والشعب يعرف قيمة الآخر، عملاً بالمثل القائل: «اللى يشوف مراة أبوه يعرف قيمة أمه»، وقد راهن المصريون على موقف القوات المسلحة، ثم الداخلية يوم 30 يونيو، وكان الرهان رابحاً، حيث انضم الاثنان لصفوف الشعب، واستطاع الإخوان المسلمون بغبائهم السياسى منقطع النظير، أن يصنعوا المعجزة ويوحدوا الجيش والشرطة والشعب على قلب رجل واحد! ورأيت بعينى، ليلة 8 يونيو، السيارات تتكدس على الجانب الآخر من الشوارع المقام عليها كمائن الداخلية، والناس يحيّون ضباط الشرطة بالتصفيق والهتاف ورفع الأعلام، بعد أن اعتدنا لسنوات طوال أن «نرعّش» الضوء العالى لكى نحذر سائقى السيارات على الجانب الآخر من «الرادار»، فى حالة من التكاتف الشعبى العجيب -والغريزى- ضد الداخلية! وكما توقعت وتوقع كثيرون مثلى، أعاد «30 يونيو» بناء جسور الثقة التى تهدمت بين المواطن وضباط الداخلية، بفعل بعضهم أحياناً وبفعل أمناء الشرطة ألف حين، فلا يخلو حى من أحياء مصر أو شارع أو حارة من أمين شرطة يطابق، فى تجبره وبطشه وافترائه على الناس، شخصية «خالد صالح» فى فيلم «هى فوضى»، أو شخصية «سامى العدل» فى فيلم «فرحان ملازم آدم»، كما أن تصدى الداخلية للإرهاب الذى أصبح يحاصر واقعنا وسقوط العشرات من ضباطها يوماً بعد يوم، جعل الناس أكثر تعاطفاً معها وأكثر تغاضياً عن سقطاتها التى كان آخرها قصة قتيل إمبابة.
والقصة، بالإضافة لكونها تنذر بظهور جيل جديد من بلطجية أمناء الشرطة أشد باساً وأشد تنكيلاً من الذين سبقوهم! فهى أيضاً تحييى فى نفوسنا ذكرى مقيتة لأيام اعتاد خلالها رجال الداخلية -ضباطاً وأمناء- أن يجعلوا من أقسام الشرطة محاكم تفتيش للتنكيل بخصومهم! هذا بالإضافة لعدة مواقف أعلم أنها فردية ولكنها أصبحت متكررة، وجميعها ينذر باهتزاز جسر الثقة الذى كلفنا إعادة بنائه بعد ثورتين!
نعلم جميعاً أن رجال الداخلية يضعون أرواحهم على أيديهم كل صباح، ولكننا نطالبهم أيضاً بأن يضعوا نصب أعينهم حقيقة كلمة «بوليس» التى يمثلونها، وهى كلمة إغريقية تعنى المدنية أو الحضارة، ويُقصد بها رجل المدنية والحضارة، أى الرجل المنوط به الحفاظ على المدنية والحضارة من خلال القانون، أو كما يفسرها آخرون بأنها اختصار لجملة:
Protection of Life in Civil Establishment
وتعنى حماية الأرواح فى المجتمعات المدنية.. هذا ما نتوقعه من «رجال المدنية والحضارة».