المال سلطة.. والسلطة مال.. واجتماع المال والسلطة يشكل المقدمة الأجلّ والأهم لفساد المجتمعات. فصاحب السلطة يبحث عن المال، كما أن صاحب المال يبحث عن السلطة، وفى طريق البحث تُرتكب كل الموبقات. وقد حدثتك أن «موسى» عليه السلام واجه نظاماً متعدد الأضلاع فيه الحاكم والوزير والجنود والأعوان، وكان فيه أيضاً رجل المال، المتمثل فى ابن عمه «قارون». يقول القرآن الكريم: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِى الْقُوَّةِ». كان «قارون» ثرياً ثراء فاحشاً فأصابه الغرور وتفاخر على قومه بما يملك، ولم يستمع إلى نصح المحيطين به، قالوا له: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». فقمة الفساد فى الحياة أن يصبح المال القيمة الأعلى فيها. وأمثال «قارون» هم من يكرسون هذا النوع من الفساد فى كل زمان ومكان!
لم يأبه «قارون» لنصيحة قومه ورد عليهم: «قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِى». وتلك هى العبارة الشيطانية التى تقود أى شخص إلى الهلاك، عندما يظن أن ما يحوزه من مال أو سلطة أو جاه أو نفوذ صناعة يديه، وليس فضلاً من الله ونعمة. ويمكننا القول إن مفهوم «استحواذ» الشيطان على الإنسان لا يعدو الوصول إلى هذه الحالة، حالة الاغترار بالذات الفانية التى لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. وقع «قارون» فى المطب، وقابل نصيحة قومه بالخروج فى موكب كبير يستعرض فيه ثراءه وقدرته: «فخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِى قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ». كان قارون يعتمد فى تغذية إحساسه بالعز والامتلاك على ضعاف القلوب الذين يسيل لعابهم على ما فى أيدى غيرهم ويتمنون حظاً مثل حظهم، ويغفلون -بسبب جهلهم- عن العواقب الوخيمة التى ينتهى إليها من يظن أن المال أصل المجد وجوهر الحياة!
لكن الدنيا لا تخلو من أصحاب علم وعقل، وقد انبرى هؤلاء لنصح «المغفلين» الذين اغتروا بمال «قارون»: «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ». فارق كبير بين ثروة العقل وثروة المال، وفارق أكبر بين منطق العلم ومنطق الحساب المالى. فالعلم ضمانة الاستقرار فى الحياة، لأنه عنصر ثبات، أما المال فتتقلب معه الحياة حيث يتقلب، ولأنه قابل للزيادة والنقصان، بل والضياع الكامل، فإنه يظل أخلد عامل من العوامل التى تؤدى إلى فساد الحياة وضياعها، وكذلك كانت نهاية «قارون» حين خسف الله به وبماله الأرض، هنالك شعر من تمنوا مكانه بالأمس بفساد تفكيرهم وحمدوا الله على النجاة. معان كثير تلك التى تحملها الآية التى تُختتم بها قصة «قارون» فى القرآن الكريم والتى تقول: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوَّاً فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».