يمر الاقتصاد المصرى بأزمة منذ ثورة 25 يناير، وتزيد آثار هذه الأزمة بمرور الوقت فى ظل عدم تطبيق برنامج إصلاح اقتصادى متكامل. وللإنصاف، فإن هذه الأزمة ليست ناتجة عن تبعات الثورة فقط، بل إنها تراكمات ظل يعانى منها الاقتصاد المصرى لسنوات؛ من عدم اتزان بين: الصادرات والواردات، المصروفات والإيرادات، الاستثمار والاستهلاك... إلى غير ذلك من اختلالات أدت إلى مشكلات اقتصادية هيكلية ومزمنة.
إذا نظرنا للوضع الحالى، فسنجد أن الاضطرابات السياسية تعتبر هى لب المشكلة، فعلى الرغم من وجود مشاكل اقتصادية هيكلية قد يعمل الاقتصاديون على حلها، فإن جوهر المشكلة الآن يكمن فى الصراع السياسى، وعدم الاستقرار الذى يعتبر العائق الرئيسى أمام أى محاولات للإصلاح. السبب الرئيسى وراء ذلك يكمن فى أن الإصلاح الاقتصادى الذى تحتاجه مصر هو عملية طويلة ومعقدة وذات تكلفة مادية واجتماعية باهظة، وقد تؤدى إلى إشعال شرارة لثورة جديدة كما حدث فى عام 1977، حينما قرر الرئيس السادات رفع الدعم فثارت جموع الشعب ضده.
لذلك تعتبر البرامج الإصلاحية شديدة الخطورة، وقد تتباطأ الكثير من الحكومات فى تنفيذها، بل وسيسعى الحكام إلى تجنبها بأى ثمن، وفى أحوال كثيرة يضطرون إلى القيام بعكس ما تقتضيه هذه الإصلاحات، مثلما حدث فى مصر مؤخراً، فعلى الرغم من احتياج مصر لسد عجز الموازنة وضغط النفقات فإن الأشهر القليلة الماضية شهدت رفعاً للمرتبات الحكومية فى كثير من الدوائر وزيادة المعاشات، إما استجابة للمطالب الفئوية أو محاولة لاكتساب رضا الناس. ولذلك فإن الوضع السياسى المضطرب فى مصر يقلل من قدرة الحكومة على القيام ببرنامج إصلاح اقتصادى حقيقى وشامل يعيد التوازن بين أركان الاقتصاد المختلفة، وهو ما يحتاجه الاقتصاد ولا يختلف عليه الاقتصاديون حتى وإن اختلفت توجهاتهم.
لهذا يجب على الأطراف السياسية والشعبية أن يدركوا أن استمرار هذا الصراع السياسى له ثمن باهظ على الاقتصاد، فاستمرار دائرة الاضطرابات، التى ما نكاد نخرج منها حتى ندخلها مجددا، سيؤدى إلى عدم قدرة الحكومة على تخفيض نفقاتها وإعادة هيكلة الدعم بالشكل اللائق، الأمر الذى سيؤدى إلى زيادة عجز الموازنة الذى سيتخطى 200 مليار جنيه هذا العام، وقد يتخطى 250 مليار جنيه فى العام المالى المقبل. وهذا التدهور سيؤثر حتماً على التصنيف الائتمانى لمصر، الذى شهد عدة مرات من التخفيض خلال العامين الماضيين، ويؤثر ذلك بشدة على ارتفاع تكلفة اقتراض الحكومة ويضغط على عجز الموازنة.
من جهة أخرى، هذا التدهور سيؤدى إلى زيادة الفجوة بين الواردات والصادرات، مؤثراً بشكل كبير على سعر الصرف الذى شهد انخفاضاً كبيراً فى الأسابيع الماضية، وقد يؤدى عدم الاستقرار إلى انخفاض أكبر لسعر الصرف، مع تدهور سعر الصرف ستشهد مصر حالة من ارتفاع شديد للأسعار فى السنوات المقبلة. فى ظل هذه التغيرات وعدم قدرة الحكومة على إعادة هيكلة الاقتصاد بالشكل المطلوب، لن يكون أمام الحكومة إلا الاقتراض ثم الاقتراض، سواء من الداخل أو من الخارج أو من مؤسسات مالية عالمية، وهذا هو الغالب على سياسة الحكومة بطبيعة الحال الآن، وقد يكلف التمادى فى الاقتراض على المدى المتوسط والبعيد الكثير كما كلفها فى عصورها المختلفة.
ولذلك أرى أن هناك رسالتين يجب إيصالهما:
الأولى، لمن يحكم البلاد من رئاسة أو وزارة: «السياسة قبل الاقتصاد، لأنه لن يحدث إصلاح اقتصادى دون استقرار سياسى حقيقى، والتمادى فى الاقتراض لتسيير المركب سيغرق الجميع فى النهاية».
الثانية، للتيارات السياسية المتنازعة: «اعلموا أن الصراع السياسى الدائر الآن يدمر الاقتصاد، وقد لا يجد الفائز بهذا الصراع إلا دولة هشة غير قادرة على توفير احتياجاتها الأساسية، هذا إن كان هناك فائز فى نهاية المطاف»!