قبائل «البشارية والعبابدة».. مواطنون سقطوا سهواً من كشوف الحكومة

كتب: محمد أبوضيف

قبائل «البشارية والعبابدة».. مواطنون سقطوا سهواً من كشوف الحكومة

قبائل «البشارية والعبابدة».. مواطنون سقطوا سهواً من كشوف الحكومة

على هضبة عالية تقع عزبة «الصول»، على بعد 5 كم من مدينة الشلاتين، وبجانب أحد قطعان الإبل وقف عبدالله أحمد، بشاربه الكث، وبشرته السمراء، يفرغ القش للجمال، يداعبها بين الحين والآخر، ويجمع الصغار ليسقيها معاً.

هذا الرجل المصرى الأصيل ظل منذ 6 سنوات يحاول استخراج بطاقة أو الحصول على شهادة ميلاد، دون جدوى بعدما سقط والده من حصر أبناء القبائل، نظراً لوجوده فى الجبل حيث كان يعمل على الرعى، يسعى وراء المطر والمياه.

ويقول «عبدالله» لـ«الوطن»: «والدى اتولد من غير بطاقة ومات من غير شهادة وفاة، زى ما راح زى ما جه من غير ما تعرف عنه الحكومة حاجة، احنا ناس الجبل لا كنا محتاجين الحكومة ولا كانت تعرف عنا شىء».

أما «أحمد» ابن قبيلة البشارية، فهو يعمل فى تجارة الأغنام والإبل، ولد بالقرب من ضريح «الشيخ الشاذلى» فى صحراء «عيذاب» بالقرب من مدينة القصير التى تبعد أكثر من 400 كيلو عن الشلاتين، وهو يقول إن والدته لم تذهب لمستشفى ولكنه ولد فوق الجبل بالطرق التقليدية للبدو، ولم يكن له أشقاء، ظل «أحمد» يلهث مع قبيلته وراء المطر حتى وصل للجبال المتاخمة للشلاتين، وحينما أصاب والده المرض قرر النزول للعيش فى كنف المستشفى بالمدينة، ولكن كان يواجه صعوبات كبيرة فى علاج والده حتى توفى، بسبب عدم امتلاك أى أوراق ثبوتية: «ماكنش معاه شهادة ولا بطاقة ولا أى حاجة تديله الحق فى العلاج»، ويخشى «أحمد» من نفس مصير الأب، وهو يخاف أن يصيبه العجز ولا يجد علاجاً، ولذلك لم يتوقف عن محاولاته المستمرة للوصول إلى أوراقه الثبوتية، رغم الصعوبات التى تواجهه فى الإجراءات، وينزعج حين يتذكر أن خطأ شيخ قبيلته الذى تسبب فى إسقاط والده خلال الحصر هو ما أوصله إلى هذه المرحلة، ولكنه فى نفس الوقت لا يستطيع إلا أن يكن له كل احترام: «شيخ القبيلة ولا حد يقدر يتجرأ عليه، وجل من لا يسهو».

الوصول إلى سكان الجبل ليس أمراً سهلاً، بل عبر طريق ضيق، منحدر، ملىء بالمنحنيات، وبين الحين والآخر تظهر انكسارات فى الطريق بفعل السيول، 80 كيلومتراً غرب مدينة الشلاتين، أخذت السيارة تطويها ببطء، فلا يستوى الطريق، وفى نهايته يظهر آخر ضيق، تحيط به الجبال من جميع الجهات، وفى الوسط كوخ تنتشر حوله الماعز والإبل، وبداخله يجلس الشيخ على عيسى شيخ قرية «الجاهلية»، التى يسكن أهلها فوق تبة عالية تعلو الوادى الذى يعيش فيه الشيخ، ويعيش الشيخ على عيسى، أحد مشايخ قبائل «العبابدة»، مع أبناء قبيلته فى قرية بها الكثير من الخدمات، ولكن كل أبناء القبيلة لا يتمتعون بها بسبب غياب الأوراق الثبوتية، ويعترف الشيخ بشكل صريح: «لقد سقط منا الكثير سهواً خلال الحصر الأولى للقبائل حينما وصل الجيش المصرى للمنطقة».

و«الجاهلية» إحدى قرى المثلث، التى تنزوى بين جبال البحر الأحمر، يعيش أهلها متناثرين بين الجبال، ويعملون فى مهنة الرعى، التى لا يعرفون غيرها مهنة الأجداد والآباء، يتزوجون بتقاليدهم المعروفة دون أوراق رسمية، والكثير منهم لم يعرف لتلك الأوراق أهمية إلا مع النزوح من الجبل إلى القرية،التى تظهر فوق تبة مرتفعة، بعدما قضى التصحر على الأخضر واليابس، يفرد «الشيخ على» حصيراً أمام الكشك الخشبى، هنا يستقر ويلتف حوله أهل القرية، وهو يقول «فى عام 1994 جاء الجيش المصرى وطلب من المشايخ حصراً بأعداد وأسماء القبائل، لتقديم معونات وتبرعات حيث كانت تمر البلد بحالة من الفقر المدقع، ولكن فوجئنا أن ذلك الحصر هو ما اعتمدت عليه السلطات المصرية فى استخراج أوراق ثبوتية لأهل المنطقة فيما بعد، ونتمنى لو تسهل الدولة الإجراءات لتسجيل أبناء قبيلته من ساقطى القيد فى سجلاتها الحكومية».

وفى «عزبة العالى»، داخل أحد المقاهى المبنية من القش، يجلس «حمد محمد»، شيخ قبيلة «البلقاب»، أحد بطون قبائل البشارية، يحتسى فنجاناً من «الجبنة»، ويقول إن «كل أبناء البلقاب الذين يقدرون بـ2000 نسمة ليس لديهم أوراق ثبوتية، ومن يحمل منهم بطاقات يعد على أصابع اليد الواحدة، والبقية تعيش دون أدنى حقوق أو خدمات، فى حين أنها إحدى القبائل التى استقبلت الجيش المصرى حين جاء إلى المدينة فى مطلع التسعينات».

وقبيلة «البلقاب» حسب رواية الشيخ، وقف مشايخها «فى ضهر الجيش» ضد مساعى السودان لعودة حلايب إلى إدارتها، بل كانت تساعد الجيش على «تمصير المنطقة»، خاصة أن أكثرهم يسكنون الجبال ويعملون فى الرعى، حيث بنى الجيش وحداته العسكرية بجوار مراعيهم وأراضيهم.

{long_qoute_1}

وبجبين مقطب يقول «حمد» ممتعضاً: «احنا نشترى الميه فى الشلاتين لأننا لا نملك أوراقاً ثبوتية نحصل بها على حقوقنا كبقية القبائل التى تأخذ المياه مجانية»، ليست المياه هى كل شىء، ولكن حسب رواية الشيخ: «نحن نفقد كل الحقوق».

ولم يفقد أبناء قبيلة «البلقاب» أوراقهم الثبوتية بسبب نسيان مشايخهم كما حدث مع العبابدة وباقى قبائل البشارية، ولكن حسب رواية «حمد» جاءت أخطاء خلال عملية الحصر من مشايخ البلقاب حينها، حيث يكتب الشيخ أفراد قبيلته حسب اسم الشهرة وليس لقب العائلة وليس اسمه الحقيقى: «يعنى مثلاً اسمه محمد ووالده اسمه حسن، ولكن أطلق عليه محمد كير لانتشار اسم محمد، فكتبه الشيخ محمد كير، وهو ليس اسمه محمد كير، ولكن اسمه محمد حسن، وهو ما صنع أزمة فى السجل المدنى وأسقط أسماء البلقاب من الحصر».

{long_qoute_2}

ويقول «حمد» إن البلقاب هم العدد الأكبر من بطون البشارية، حيث يصل عددهم إلى 200 شخص مقيدين فى الأوراق والسجلات الحكومية فى حين هناك أكثر من 1700 شخص آخر يعيشون دون أى أوراق، بسبب اختلاف الحصر وهم من يعيشون فى الصحراء على الحدود المصرية السودانية.

حسون الحاج، بطاقيته البيضاء وجلبابه البنى، يجلس أمام وكالته فى السوق الدولية فى الشلاتين، لا يجد فى اعتراف شيوخ القبائل بنسيان بعض أبناء الجبال وبعض أبناء القبائل، وأنهم «سقطوا سهواً» سبباً حقيقياً، ولكنه يسوق سبباً آخر، مشيراً إلى أن قبائل البشارية بداخلها بطون، وتلك البطون دائماً فى تصارع على المشيخة، وهى منافسة يعرفها الجميع، ولكن حين جاء الجيش إلى المدينة، استغلوا عملية الحصر لإسقاط أكبر عدد من البطون المنافسة لهم فى المشيخة لتكون لهم الغلبة، وقد كان، لذلك تجد فى البشارية بعض البطون هم السادة لهم التجارة ولهم كل شىء، وآخرين فى الجبال ليس لهم أوراق ثبوتية وليس لهم أى حقوق.

«الحاج» ابن قبيلة العلياب، أحد بطون قبائل البشارية، ويشير إلى أن العلياب والبلقاب من أكثر القبائل التى تحمل أوراقاً ثبوتية فى البشارية، وهم يفقدون كل الحقوق، رغم أنهم الأكثر عدداً بين بطون البشارية، وهو ما دفع عدداً من المشايخ الذين يتسيدون المشيخة الآن لإسقاط أبناء العلياب والبلقاب من الحصر خلال فترة التسعينات، وليس سهواً كما يدعى البعض.

 


مواضيع متعلقة