بروفايل| "أسمهان".. أميرة لحن الألم

كتب: حسن معروف

بروفايل| "أسمهان".. أميرة لحن الألم

بروفايل| "أسمهان".. أميرة لحن الألم

انزعجت آمال الأطرش من صوت المضخات البخارية بترعة الساحل في طلخا، ووصفته بأنه "صوت جنائزي"، وكان هذا دليلا على شفافية روح الفنان داخلها بدرجة عالية، فقد لقيت مصرعها في المكان نفسه بعد 4 سنوات فقط.

عن المعاناة التي ترافق الفنان منذ أول لحظة له في الحياة حتى آخر نفس له فيها يمكن أن تحدثنا "أسمهان"، التي تركت لنا تاريخا من المآسي والآلام، يملأ حياة قصيرة زمنيا لكنها عظيمة الأوجاع، حياةً تشبه حركة موج البحر الذي تلقى هذه الطفلة، التي عاشت تبحث عن "أرض" ثابتة بعد أن سأمت أرجحة الموج، فكان لها روح دائمة القلق، دائمة التطلع، تخاف الاستقرار، حتى وصل الأمر إلى أنها لم تستقر على بيت واحد أو زوج واحد أو حتى ملحن واحد لمجموعة أعمال.

لا يعرف أغلب المصريين عن "فيينا" سوى أنها "روضة من الجنة"، وأن "ليالي الأنس" لا تحلو سوى في هذه المدينة الغربية، واحتل هذا التصور مكانة بارزة في ذاكرة المصريين نتيجة ارتباطه بإحدى أنجح وأخلد الأغنيات في تاريخ الطرب العربي "ليالي الأنس في فيينا" التي شدت بها أسمهان في فيلم "غرام وانتقام"، والذي رحلت قبل أن تكمله أو تكمل عامها الثاني والثلاثين، لكنها تركت تراثا فنيا قليل العدد بعيد الأثر، خالدا حتى الآن.

"كاميليا" هي الابنة الوحيدة للأميرة السورية "أسمهان"، نتاج زواج لم يدم سوى 6 سنوات من الأمير حسن الأطرش، وضعتها في القاهرة وجعلت منها خيطا رفيعا يربطها بعاصمة أحلام الأميرة، فكانت تعود إلى الجبل بجوار زوجها ثم لا تلبث أن تتركه بحجة زيارة ابنتها في القاهرة، لكن السبب الحقيقي هو الاشتياق لأضواء الشهرة في هوليوود الشرق.

عاشت "أسمهان" ظروف "اللجوء" وهي مازالت في رحم أمها، ثم ذاقتها وهي في مرحلة الصبا، حيث كانت تعي معاني "الغربة، الفقر، اليتم" قبل أن تدرك معاني مثل "الحب، الثراء، اللهو"، فدفعها ذلك دفعا إلى مجموعة من التعويضات العاجلة، انتهت بها إلى مجموعة من التجارب القصيرة العميقة، لم يترك الألم تفصيلة منها إلا وسكنها، وكذا كانت ضريبة المعرفة والشهرة لفنانة تسهر العيون الآن منتشية من ندى صوتها.

"إمته هاتعرف" تعتبر من الأعمال الفنية القليلة التي تحولت إلى ثيمة في حياة كل العرب، فما اجتمع حبيب بحبيبه قبل مرحلة البوح إلا وكان هذا اللحن بهذه الكلمات في خلفية المشهد، بل يمكن أن تكون النظرات ذاتها التي ينظر به المحب إلى هدفه المنتظر تحمل بصمة عيون "أسمهان"، تلك العيون التي كان مضرب المثل في الجمال.

 

الصدفة وحدها، وكالعادة، قادت "أسمهان" إلى الأضواء، حين استمع داوود حسني لصوت رخيم خلال زيارته للملحن الشاب "فريد" في منزل العائلة، وحين علم أنها الأخت الصغرى له طلب منه أن يستمع إليها مجددا، فقدمت له الصبية الشيء الوحيد الذي تملكه ذاكرتها إلى جانب الألم، وهو مجموعة من أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب، فأطلق عليها داوود حسني اسما فنيا هادئا كموج البحر ملكيا كأصلها: "أسمهان"، وأطلق معه موهبتها التي بلغت الآفاق.

أول تجارب أسمهان الفنية كانت في صالة "ماري منصور" في شارع عماد الدين في القاهرة،إلى جوار أخيها فريد الأطرش، وفتحت لها أبواب الشهرة، وفي فترة وجيزة انهالت كلمات الإشادة والإعجاب من كبار الملحنين في هذا الوقت على الصبية، ثم انقطعت خلال سنوات زواجها عن الوسط الفني، ومالبثت أن عادت تدفع أمواج إبداعها رياح الشوق، فقدمت العديد من الأغنيات وفيلمين، ولم يمهلها القدر أن تكمل ثانيهما، وتوقفت حياتها قبل تصوير "النهاية السعيدة" في فيلم غرام وانتقام، فاضطر المخرج إلى تغيير النهاية لتلائم وفاتها، وتتشابه مع نهاية مسلسل حياتها الحزين.

ولدت أسمهان في "الماء" وانتهت حياتها في "الماء"، فقد رزق الأمير فهد الأطرش بابنته "أمال" على متن باخرة أثناء رحلة العائلة من تركيا إلى الشام، كذلك توفيت أمال غرقا بعد أن انقلبت بها السيارة في ترعة الساحل بطلخا، غريبة جاءت.. غريبة عاشت.. غريبة رحلت، كعادة كل العظماء.

عزف الكثيرون بعد وفاة أسمهان ألحان الشائعات، بإلهام من هذه النهاية المفاجئة المفجعة الغامضة، فذهب بعضهم إلى أن أصلها الأميري وتدخلها في السياسة بسبب مكانتها بين الدروز واتصالها بالمخابرات الإنجليزية إبان الحرب العالمية الثانية كان سببا مباشرة في اغتيالها بعمل استخباراتي، وأفتى آخرون بأن علاقتها بأحد رجال القصر الملكي في مصر وغرامه بها أثارت غيرة "الوالدة باشا" فقررت التخلص من هذا العزول، وكأن هذه الشائعات قد كتب لها الحياة أكثر من أسمهان لتكمل دائرة الأسرار التي بدأتها الموهبة الفذة في المهد مع الجمال الآخاذ مع الوفاة الغامضة.


مواضيع متعلقة