ملحمة وأنشودة

الملحمة هى ملحمة فلسطين، خصوصاً بعد إعلان قيام دولة إسرائيل 1948، هذا أول سقوط ضخم تشهده الأمة، بعد أن كانت الأندلس قد سقطت 1492، وشاهد العرب والمسلمون بأم أعينهم، ماذا جرى للمورسيكيين ونتيجة الرضاء بالدويلات الهزيلة لسبب أو لآخر، والمورسيكيون هم آخر العرب والمسلمين فى الأندلس.

نتيجة الصراع على الحكم، والتفتت والاستعانة بغير المسلمين كارثية وعلى فقهاء العصر مراجعة الفتاوى فى هذا الشأن، التاريخ يعيد نفسه لمن لا يتعلم الدرس، ولا يستفيد من التجارب الجيدة أو السيئة على حد سواء. دخل العرب عدة حروب ضد إسرائيل فى 1948، وفى 1956 وفى سنة 1967، وكانت الهزائم والنكسات كبيرة، واحتلت إسرائيل بعض أجزاء من الأمة منها سيناء، وفى 1973 استطاع العرب أن يهزموا إسرائيل، وهتف الجنود والشعب الله أكبر، وعندما تغيرت موازين الحرب وتدخلت أمريكا والغرب، حدثت الثغرة ودارت المفاوضات عند الكيلو 101 غرب القناة، واسترد المصريون سيناء وبقيت الجولان السورية ومناطق أخرى تحت الاحتلال الإسرائيلى.

وكانت هزيمة مدوية أخرى لإسرائيل على يد حزب الله سنة 2006، ولولا الفتن الكبيرة فى الأمة، ومنها الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة، أو الاعتماد على الغرب والوقوع فى حبائله، ما بقيت إسرائيل يوماً واحداً حتى بدعم من الغرب، الملحمة الفلسطينية، ومعها الملاحم العربية القائمة، حتى اليوم، خصوصاً فى سوريا والعراق واليمن وليبيا، مما يهدد الأمة كلها بالزوال، كما زالت الأندلس، خطر شديد قائم، نجّى الله تعالى منه مصر، لتؤدى دوراً مفقوداً فى الوحدة والتكامل والتعاون العربى والإسلامى، والصمود أمام الأخطار التى تهدد كيان الأمة، أو على الأقل التنبيه عليها وذلك «مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ».

هذه هى الملحمة، أما الأنشودة فقد كتبها الشاعر العظيم على محمود طه قبل وفاته 1949، وغناها الفنان الكبير محمد عبدالوهاب سنة 1948، أتذكر أن الناس فى قريتى كفر البتانون منوفية والقرى المجاورة، بخاتى وطنبدى وكفر طنبدى وكمشيش من المنوفية، وغيرها سنة 1948، كانوا يتغنون بتلك الأنشودة، حباً فى فلسطين وفى الجهاد، وإشفاقاً على العرب وتضامناً مع شعب فلسطين.

تقول كلمات القصيدة العظيمة:

أخى، جاوز الظالمون المـدى... فحقَّ الجهادُ، وحقَّ الفـِدا

أنتركهُمْ يغصبونَ العُروبــةَ... مجد الأبوَّةِ والســـؤددا؟

وليسوا بِغَيْرِ صليلِ السيـوفِ... يُجيبونَ صوتاً لنا أو صدى

فجرِّدْ حسامَكَ من غمــدِهِ... فليس لهُ، بعدُ، أن يُغمـدا

أخى، أيهـــا العربىٌالأبىٌ... أرى اليوم موعدنا لا الغـدا

أخى، أقبل الشرقُ فى أمــةٍ... تردُّ الضلال وتُحيى الهُـدى

أخى، إنّ فى القدسِ أختاً لنـا... أعدَّ لها الذابحون المُــدى

صبرنا على غدْرِهم قادرينــا... وكنا لَهُمْ قدراً مُرصــداً

طلعْنا عليهم طلوع المنـونِ... فطاروا هباءً، وصاروا سُدى

أخى، قُمْ بنا إلى قبلة المشرقيْن... لنحمى الكنيسة والمسجـدا

أخى، قُمْ إليها نشقُّ الغمـار َ... دماً قانياً ولظى مرعـدا

أخى، ظمئتْ للقتال السيوفُ... فأوردْ شَباها الدم المُصعـدا

أخى، إن جرى فى ثراها دمى... وشبَّ الضرام بها موقـدا

ففتِّشْ على مهجـــةٍ حُرَّة... أبَتْ أن يَمُرَّ عليها العِــدا

لا يستطيع أحد أن يستمع إلى هذه القصيدة من عبدالوهاب، إلا وبكى من الكلم الجيد، واللحن الشجى، والصوت العظيم، وكلها تقود إلى ذكر الملحمة.

تقول المصادر العديدة عن الشاعر على محمود طه، أنه كان من أعظم من يتغنى بالجمال، وأنه من أعلام وأمارات مدرسة أبوللو البارزة، ولذلك يقول عنه المفكر أحمد حسن الزيات رحمهما الله تعالى: كان شاباً منضور الطلعة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا يبصر غير الجمال، ولا ينشد غير الحب، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوى ينشدها الدهر، ويرقص عليها الفلك».

هذا هو الوصف الذى يليق بالشاعر على محمود طه، أما عبدالوهاب، فقد طبقت شهرته الآفاق، وجذب الجميع بصوته الرائع، خاصة وهو يغنى أنشودة: أخى جاوز الظالمون المدى، فى ملحمة فلسطين، أيام الملك الفاسد فاروق وقبل ثورة 1952.

لقد أحسنت المدارس والسلطات فى تونس، حيث يعتصم الطلبة فى المدارس ضد الملاحم الصهيونية المستمرة، والتى تشتد من حين لآخر، استوقفنى فى هذه القصيدة الرائعة عدة صور، تكاد تكون معنا فى اليقظة والمنام إذا جاء، يقول على محمود طه:

وليسوا بغير صليل السيوف *** يجيبون صوتاً لنا أو صدى.

ما قاله الرجل هو الحق، وما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة، كما قال الزعيم جمال عبدالناصر، رحمه الله تعالى. وعندما يقول على محمود طه:

أخى، أقبل الشرقُ فى أمــةٍ... تردُّ الضلال وتُحيى الهُـدى

فلنسأل أنفسنا أين هذا الدور، وقد انكفأ كل على مشاكله وتحدياته. ويختم الشاعر ببيتين رائعين:

فلسطينُ يفدى حِماكِ الشبابُ... وجلّ الفدائى والمُفتـدى

فلسطين تحميكِ منا الصـدورُ... فإماً الحياة وإمــا الرَّدى

وهذا هو الدور الذى تقوم به المقاومة، أياً كان سلاحها وتوجهاتها حتى الحجارة، كنت أتمنى أن تعود قضية فلسطين إلى مركزها الذى كان القضية المركزية، وأقول للعرب والمسلمين جميعاً، إن الملاكم أو المصارع يبحث عن نقطة ضعف عند الخصم فإذا وجدها وركز عليها كانت له الغلبة، ونقاط الضعف عند إسرائيل كثيرة وعلينا اكتشافها والتسديد عليها، وعلينا تقوية نقاط ضعفنا.

والله الموفق