إزالة القفص الحديدى من المحاكم إزالة للقهر

«حضرات السادة المستشارين، هذا المتهم القابع خلف القفص برىء من التهمة المسندة إليه براءة الذئب من دم ابن يعقوب»، جملة أعتقد أنها ستختفى من قاموس المترافعين أمام المحاكم المصرية، عبارة كانت تلازم السادة المحامين فى كل مرافعاتهم القانونية، تلك العبارة ستصبح عديمة الجدوى ومنعدمة الأثر بعد أن قررت الحكومة ممثلة فى سيادة وزير العدل، المستشار أحمد الزند، إزالة القفص الحديدى من قاعات المحاكم الابتدائية والجزئية.

ورغم أن هذا القرار قد يبدو عادياً فى ظاهره، لكن الحقيقة المؤكدة أن جوهره يحمل مضامين غاية فى الأهمية، ولكونى أحد العاملين فى مجال القانون وحضور المحاكمات فقد عاصرت وشاهدت مئات بل آلاف المآسى التى تعرّض لها كل من شاء قدره أن يدخل ذلك القفص اللعين، حالة من القهر تعرّض لها آلاف من المواطنين الأبرياء الذين ساقهم القدر للمثول أمام منصات القضاء المختلفة، ساقتهم الظروف لدخول ذلك القفص الحديدى لاتهامهم فى قضايا بسيطة كـ«جنحة مبانى أو شيك بدون رصيد تم سداده قبل نظر الدعوى»، تعاملات طبيعية ويومية يؤديها الكافة ينتج عنها فى بعض الأحيان اتهام البعض بمخالفة القانون، وتكون نتيجتها إسناد الاتهام إليه، مما يستلزم محاكمة الفرد عن ذلك الفعل ودخوله القفص حتى آخر الجلسة، ولحظات مريرة يتعرض لها كل إنسان شاء قدره أن يمر بها، عيون زائغة رأيت فيها كم المرارة والحسرة التى تنتاب ذلك الإنسان البسيط من جرّاء ذلك الموقف العصيب وبسبب مخالطتى لكثيرين تعرضوا لهذه اللحظات القاسية التى تركت فى عقولهم وقلوبهم آلاماً لا حصر لها أستشعر كم المعاناة التى عايشوها دون أن يشعر بهم أحد، ساعتان أو أكثر، مدة كان يقضيها ذلك الفرد داخل القفص، لكنها فى الحقيقة تمر عليه وعلى ذويه كالدهر، كنت أرى الشخص قبل دخوله القفص بوجه وملامح مغايرة تماماً لذات الوجه ولتلك الملامح بعد دخوله القفص.

قرار إزالة تلك الأقفاص من قاعات المحاكم انتصار لحقوق الإنسان وتعلية للمواثيق الدولية، ويؤكد احترام مصدر ذلك القرار للدستور ومبادئ الشريعة الإسلامية وصون آدمية الفرد وصيانتها، لا شك أن ذلك القرار يُعد انتصاراً جديداً لحق الإنسان فى العيش الكريم ويحفظ للمتقاضى كرامته وإنسانيته. لقد انتصر ذلك القرار لحق المتهم فى محاكمة منصفة يستطيع فيها استشارة دفاعه والتشاور معه أثناء انعقاد الجلسة دون فصل بينهما، كما أنه يؤكد ويحقق الضمانة الدستورية الممنوحة للمتهم فى صميم دفاعه على النحو الذى رسمه القانون، كما أنه أيضاً انتصار لقاعدة قرينة البراءة التى تلازم المتهم حتى يُقضى فى حقه بحكم قضائى نهائى وبات، كون وضع المتهم داخل ذلك القفص إنما ينبئ عن إهدار هذه القرينة ويرجّح إدانته قبل النطق بها.

حاول الكثيرون من أعداء الوطن السعى إلى تصدير مظاهر الشك والريبة فى منظومة القضاء المصرى وإظهار المثالب والعوار فى إجراءاته، بالإضافة إلى ترديدهم المستمر لمخالفة تلك المحاكمات لمبادئ حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، فإن أبلغ رد على تلك المزاعم صدور ذلك القرار الذى يعد بمثابة رد عملى وواقعى على تلك المزاعم والمغالطات وتعرية ما يسوقونه بغير دليل، ومما لا شك فيه أن التاريخ سيكتب لكل من شارك فى إعداد وإصدار هذا القرار الصائب أنه أقدم على ما لم يقدم عليه غيره، سيكتب التاريخ أن النظام المصرى فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى قد انتصر لحقوق الإنسان وحافظ على آدمية الفرد وصان حق المواطن فى محاكمة منصفة عادلة لا جور فيها.

أعتقد أن كاميرات التلفاز التى ستسجل إزالة أول قفص حديدى من قاعات المحاكم المصرية ستسجل مستنداً تاريخياً يضاهى الصورة الرائعة التى سجلتها ذات الكاميرات عن تنفيذ قرار هدم المعتقلات.

ستذكر الأجيال المقبلة للمستشار أحمد الزند أنه قد أزال رمزاً من رموز القهر والظلم من قاعات المحاكم التى لا تبتغى إلا تحقيق العدل والحفاظ على حقوق المواطنين وصيانة كرامتهم.

أوقن أن تلك الخطوة هى بداية لخطوات أخرى لا تقل أهمية عن إزالة الأقفاص الحديدية من دور المحاكم، فالقيود الحديدية والأغلال التى توضع فى يدى المتهم هى الأخرى تنتهك آدمية المتقاضى، ولابد من معالجتها بصورة تحفظ للمواطن إنسانيته، أيضاً ملابس السجن البيضاء والزرقاء هى الأخرى فى حاجة إلى تدخل قانونى يمنع ارتداءها إلا لمن حُكم عليه بحكم قضائى نهائى، سيارة الترحيلات، ذلك الصندوق الحديدى المدمر للمشاعر والأبدان هى صناديق حديدية تفتقر لأبسط قواعد الإنسانية.

أعتقد أن قرار إزالة القفص الحديدى سيكون بمثابة الحجر الذى يُلقى فى مياه النهر الراكد، كم كانت سعادتى وأنا أرى فى عيون المصريين سعادة تترجم مشاعرهم من أن النظام السياسى عازم ومصمم على حماية آدميتهم وإنسانيتهم التى كانت تُغتال بتلك الإجراءات التعسفية اللعينة.

لا شك أن هذا القرار سيزيد من العبء الملقى على عاتق رجال الشرطة المصرية فى حفظ النظام والأمن داخل الجلسات، لكننا على يقين من سعادتهم به، فهم فى النهاية مصريون وطنيون حريصون على إعلاء مبادئ حقوق الإنسان وتفعيل قواعدها على المواطن مهما تحملوا من جهد ومشقة.

كما أنه أيضاً سيضاعف متاعب السادة القضاة فى حفظ سير الجلسات ونظامها، لكنى على يقين من أنهم جميعاً سعداء بتطبيق ذلك القرار الإنسانى الصائب.

لقد كرّم الله سبحانه وتعالى الإنسان وأنزل فى كتابه الحكيم الكثير من الآيات التى تدعم وتقصد هذا التكريم: «ولقد كرمنا بنى آدم»، وجعله الله مميزاً عن سائر مخلوقاته بما يؤكد أن العناية بحقوق الإنسان وصيانتها مطلب شرعى حرصت عليه كافة الشرائع السماوية وسنّت لها القواعد الآمرة والملزمة، وكان على رأس تلك الحقوق الحق فى الحياة الكريمة، بالإضافة إلى باقى الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون تفرقة بسبب اللون أو الجنس أو اللغة.

تحية واجبة للرئيس وللمستشار الزند على ذلك القرار، على أمل المزيد من القرارات الداعمة لحق الإنسان المصرى فى معاملة تليق بتاريخه وتاريخ هذا الوطن.

وللحديث بقية ما دام فى العمر بقية.