رفعت رشاد يكتب: فرنسا تعزف على أوتار القوة الناعمة

رفعت رشاد يكتب: فرنسا تعزف على أوتار القوة الناعمة
ليست فرنسا دولة فحسب، بل حالة وجدانية، وروحٌ ثقافية ، تُسجِّل حضورها لا بالتهديدات بل بالديبلوماسية، لا بالصراخ بل بالتحية . تلك فرنسا التي تُتقن استخدام القوة الناعمة كأنها لوحة لـ«مونيه» تنبض بالحياة، أو معزوفة لـ«ديبوسي» تمسّ القلوب وتدغدغ المشاعر .
ولأن القوة الناعمة ليست مجرد أدوات ناعمة، بل فلسفة عميقة تستنطق التاريخ والثقافة والفن واللغة، فإن فرنسا كانت – ولا تزال – إحدى أبرز ساحرات هذا الفن الراقي.
ما من حفل دبلوماسي راقٍ إلا والفرنسية لغته، ولا من مأدبة رسمية إلا والمطبخ الفرنسي حاضنها، ولا من مجلس بروتوكولي إلا والإيتيكيت الفرنسي متوَّج فيه .
تجلّى هذا الحضور البهيج مؤخرًا حين زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أرض الكنانة، مصر الحضارة، مصر الجمال. لم تكن زيارته مجرّد لقاء رسمي أو اجتماع قمة، بل كانت رحلة في الزمان والوجدان، من أهرامات الجيزة إلى معابد الأقصر، من سحر النيل إلى عبق التاريخ.
خصّص ماكرون وقتًا طويلًا لمواقع مصر السياحية، فظهر إلى العالم وكأنه عاشق يتجول في معشوقته ، ينحني احترامًا لها، ويلتقط الصور معها، لا لأجل الإعلام بل لأجل التاريخ.
إنه فعل رمزي، نعم، لكنه أشد وقعًا من ألف بيان رسمي. فحين يُبرز الإعلام الفرنسي والعالمي صور الرئيس الفرنسي في حضرة تمثال رمسيس الثاني أو في ساحة معبد الكرنك، فإن ذلك يعيد رسم صورة مصر في المخيال الغربي، لا كمجرد دولة في الشرق، بل كمصدر إشعاع ثقافي وسياحي وإنساني.
وهو في ذات الوقت يُظهر فرنسا كدولة تُجيد قراءة التاريخ وتُحسن مخاطبة الشعوب بلغتهم الأثيرة: لغة الاحترام والانبهار.
وما أشبه هذه الزيارة بما فعله ماكرون من قبل حين حلّ على لبنان في أشد أزماته، لم يُخاطب اللبنانيين بخطابات سياسية، بل صعد إلى بيتها العالي، بيت السيدة فيروز، أيقونة لبنان الخالدة، وقلدها وسام الشرف الفرنسي.
في تلك اللحظة، لم يكن رئيسًا فحسب، بل كان سفيرًا للجمال والامتنان. احتضن فيروز، فاحتضن لبنان، وبعث برسالة للشرق والغرب: أن القوة الناعمة لا تحتاج سلاحًا، بل تحتاج قلبًا وذوقًا وذاكرة ثقافية حية.
ماكرون لم يكن استثناء، بل امتدادٌ لتقليد فرنسي عريق يؤمن بأن الثقافة هي الرافعة الأمثل لصورة الدولة. فيروز ليست فرنسية، لكنها أصبحت في تلك اللحظة جزءًا من الرواية الفرنسية الحديثة. ومصر ليست مستعمرة، لكنها في عيون فرنسا إرثٌ إنساني مشترك.
إنه درس في الدبلوماسية الوجدانية، حيث تمتزج المصالح بالعواطف، والمواقف بالرموز. قوة لا تصطدم بل تتسلل، لا تفرض بل تُقنع، لا تحتل الأرض بل تملك القلوب.
وما أجمل أن تردّ مصر على هذا التقدير الفرنسي بفتح أبوابها الثقافية أكثر، وباستثمار هذا التوهج الإعلامي في تعزيز حضورها الدولي كعاصمة للتراث الإنساني. فالقوة الناعمة تبادل، لا استهلاك. وشراكة الذوق والفن أعمق من شراكة السلاح.
هكذا تُبنى الجسور بين الشعوب، وهكذا تُكتب الروايات الجميلة .