مصطفى عمار يكتب: «ماكرون» في العريش.. من يريد أن يفهم الشرق الأوسط عليه أن يمر من مصر أولاً

مصطفى عمار يكتب: «ماكرون» في العريش.. من يريد أن يفهم الشرق الأوسط عليه أن يمر من مصر أولاً

مصطفى عمار يكتب: «ماكرون» في العريش.. من يريد أن يفهم الشرق الأوسط عليه أن يمر من مصر أولاً

فى زيارة حملت أبعاداً سياسية وإنسانية ورسائل بالغة الوضوح، استقبل الرئيس عبدالفتاح السيسى نظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون فى القاهرة، ثم اصطحبه فى جولة تاريخية إلى مدينة العريش، بوابة مصر إلى غزة، ومركز العمل الإنسانى المصرى منذ بدء العدوان الإسرائيلى فى أكتوبر الماضى، والتى كانت قبل سنوات وكراً للإرهاب الأسود، قبل نجاح الرئيس السيسى والقوات المسلحة المصرية فى تطهيرها وعودة الأمن والأمان لها؛ لدرجة تجعلنا نشاهد الطائرة الرئاسية الفرنسية وهى تهبط بمطار العريش، ويكون فى استقبال الرئيس ماكرون قائد مصر ورئيسها الرئيس عبدالفتاح السيسى.

لم تكن الزيارة بروتوكولية، ولا عابرة، بل كانت لحظة سياسية دقيقة وخالدة، اختارت فيها مصر أن تتكلم بوضوح للعالم كله بأن الدور المصرى ليس فقط حاضراً، بل هو محورى فى كل ما يتعلق بغزة ومستقبلها، وحاضر ومستقبل الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى، بل ومعادلة الأمن الإقليمى برمّتها.

..

وتأتى زيارة «ماكرون» للقاهرة فى ذروة التصعيد الإسرائيلى فى قطاع غزة، وفى لحظة إنسانية حرجة تجاوز فيها عدد الشهداء الـ30 ألفاً، معظمهم من النساء والأطفال، وفق بيانات وزارة الصحة الفلسطينية. وفى ظل اتهامات متكررة وغير دقيقة وجَّهها الإعلام الغربى -وبعض الساسة- للقاهرة بشأن معبر رفح، جاء «ماكرون» ليرى بعينه، وليسمع من القاهرة مباشرة.

ولأن السياسة الدولية تعرف الرمزية جيداً، فإن زيارة «ماكرون» للعريش -وليس فقط للقاهرة- تحمل دلالة غير مسبوقة، فهو أول زعيم أوروبى يذهب بنفسه إلى هذه النقطة المتقدمة، القريبة من غزة، ما يكشف عن إدراك فرنسى عميق بأن الفهم الكامل للواقع لا يتم من خلف المكاتب، بل من الميدان.

كما أن اصطحاب الرئيس السيسى لنظيره الفرنسى إلى العريش لم يكن خطوة مجاملة، بل كان رسالة واضحة تقول إن مصر منفتحة، وشفافة، ولا تخشى أن تُرى جهودها على حقيقتها. فالرئيس لم يكتفِ بالكلمات، بل قدّم عرضاً عملياً مباشراً، يرد به على حملات التشويه والادعاءات الزائفة التى رُوّج لها خلال الأسابيع الماضية حول دور مصر الإنسانى.

..

مصر التى فتحت معبر رفح منذ اللحظة الأولى، واستقبلت آلاف الجرحى، وتعمل يومياً على إدخال المساعدات عبر معبر العوجة بالتنسيق مع المنظمات الدولية، لا تحتاج إلى إثبات نواياها، لكنها أصرّت على أن تُظهر للعالم بأسره -عبر «ماكرون»- الحقيقة من أرض الواقع.

وفى كلمته عقب الزيارة، أكد الرئيس السيسى أن مصر ترفض بشكل قاطع تهجير الفلسطينيين أو تصفية قضيتهم، قائلاً: «نرفض تماماً أية محاولات لتغيير الوضع القائم فى غزة.. ولن نسمح بتفريغ القطاع من سكانه». وهو موقف ثابت ومتسق منذ اللحظة الأولى.

كذلك، شدد الرئيس السيسى على أن مصر تدين كل أشكال استهداف المدنيين -سواء فى إسرائيل أو فلسطين- وتدعو إلى وقف فورى لإطلاق النار، ما يعكس التوازن المصرى المعروف الذى يجمع بين الإنسانية والواقعية السياسية.

فى المقابل، تأتى زيارة «ماكرون» ضمن مسعى فرنسى واضح لاستعادة الحضور الدبلوماسى فى منطقة الشرق الأوسط، بعد سنوات من التراجع الأوروبى لصالح القوى الإقليمية الصاعدة. واختار «ماكرون» بوابة القاهرة، ليس فقط لثقلها السياسى، بل لما تتمتع به من مصداقية لدى كافة الأطراف.

فرنسا تدرك أن القاهرة هى العاصمة الوحيدة التى تستطيع التحدث مع الجميع -من واشنطن إلى حماس- دون أن تفقد مكانتها أو مصداقيتها. لذا، فإن اصطفاف فرنسا مع مصر فى هذه اللحظة هو رهان على الاعتدال والقدرة، وليس فقط على الجغرافيا. تصريحات الرئيس «ماكرون»، خلال المؤتمر الصحفى المشترك مع الرئيس السيسى، كانت واضحة، عندما قال: «مصر شريك لا غنى عنه فى تحقيق السلام… نرفض استهداف المدنيين، ونساند الحل القائم على دولتين». وهى رسائل تؤكد تقاطع الرؤية الفرنسية مع المصرية، على الأقل فى المرحلة الحالية.

زيارة الرئيسين إلى مدينة العريش لم تكن خطوة لوجيستية فقط، بل كانت فعلاً سياسياً يحمل رمزية بالغة، بأن هذه المدينة -التى كانت قبل سنوات مسرحاً لحرب مع الإرهاب- أصبحت اليوم مركزاً إنسانياً دولياً، وممراً رئيسياً للمساعدات إلى غزة. فى العريش، أقامت الدولة المصرية واحدة من أكبر المنصات اللوجيستية لدعم غزة، حيث تُجمع المساعدات من دول العالم، وتُنقل عبر طائرات الإغاثة إلى مطار العريش، قبل أن تعبر -بعد التنسيق المعقد مع عدة أطراف- إلى القطاع المحاصر.

فجهود مصر لا تقتصر على العمل السياسى، بل تشمل الجانب الإنسانى بشكل كبير، فالعريش أصبحت محوراً دولياً لدعم الشعب الفلسطينى.

ووراء هذه الزيارة رسائل غير مباشرة، لكنها بالغة الدلالة، أهمها التحذير من استمرار الصراع وتوسّعه، إذ ترى القاهرة أن تأخير الحل السياسى، واستمرار الغارات، سيؤدى إلى انفجار إقليمى قد لا يُمكن احتواؤه، بالإضافة إلى رفض أى سيناريو لتصفية القضية الفلسطينية، سواء عبر التهجير أو تقويض فكرة الدولة الفلسطينية، وهو ما عبّر عنه الرئيس السيسى بوضوح حين قال: «الحل العادل والشامل هو الطريق الوحيد للاستقرار».

وربما تكون الرسالة الأهم هى دعوة المجتمع الدولى للتحرك الجاد، فمصر لا تكتفى بالشجب، بل تتحرك دبلوماسياً، وتنسق ميدانياً، وتفتح أراضيها للمساعدات، وتطالب الآخرين بتحمّل مسئولياتهم بدلاً من الاكتفاء بالتصريحات أو المزايدة على موقف مصر ورئيسها وشعبها.

فزيارة ماكرون للقاهرة، ثم إلى مدينة العريش، أثبتت للعالم أن مصر ليست مجرد «جار» لغزة، بل هى «صانعة معادلات»، و«ضامنة توازنات»، ولاعب رئيسى فى كل مفصل من مفاصل القضية الفلسطينية.

■■ مصر تتحدث بهدوء، لكنها تفعل كثيراً. وعندما تُفتح أبواب العريش أمام الرئيس الفرنسى، فهذه ليست صورة دبلوماسية، بل رسالة مفادها أن من يريد أن يفهم الشرق الأوسط، عليه أن يمر من هنا.. من مصر.


مواضيع متعلقة