رفعت رشاد يكتب: زيارة ماكرون بين الاهتمام الشعبي ودبلوماسية الرؤساء

رفعت رشاد يكتب: زيارة ماكرون بين الاهتمام الشعبي ودبلوماسية الرؤساء

رفعت رشاد يكتب: زيارة ماكرون بين الاهتمام الشعبي ودبلوماسية الرؤساء

في لحظة مشبعة بالتحولات الإقليمية والدولية، حطت طائرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أرض الكنانة بعد أن اصطحبتها طائرات الرافال فرنسية الصنع مصرية الجنسية، حاملاً معه أجندة متخمة تتجاوز المجاملات البروتوكولية إلى عمق المصالح الاستراتيجية. لم تكن زيارة اعتيادية، بل حظيت بمتابعة جماهيرية واسعة من المصريين والفرنسيين على حد سواء، لما اتسمت به من رمزية سياسية ودفء شخصي بدا جليًا في مشاهد الجولة السياحية التي جمعت ماكرون بالرئيس عبد الفتاح السيسي.

كانت الجولات السياحية التي قام بها الرئيس الفرنسي مع الرئيس السيسي في غالبها رسائل قوة ناعمة وقف الرئيسان جنبًا إلى جنب خلالها، في مشاهد جسّدت عمق التاريخ المصري ورغبة باريس في التماهي مع حضارة تجاوزت حدود الزمن. هذه الجولات في خان الخليلي ومنطقة الحسين وجامعة القاهرة وجولات متور النفاق وغيرها، لم تكن مجرد نزهات رئاسية، بل رسائل موجهة للعالم عن الأمن والاستقرار في مصر، وقدرتها على استقبال الزعماء والسياح، ومتانة علاقاتها الدولية. وقد التُقطت الصور وتناقلتها وسائل الإعلام، لتصبح أداة دبلوماسية ناعمة تعبّر عن دفء العلاقات وعمق الاحترام الفرنسي للثقافة المصرية.

الزيارة أثمرت عن توقيع عدد من الاتفاقيات المهمة في مجالات عديدة، واتفق الجانبان على تعزيز الاستثمارات الفرنسية في مصر، والتأكيد على مواصلة التنسيق الأمني لمكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وهو ما يعكس توافقًا استراتيجيًا يتجاوز الاقتصاد إلى الأمن الإقليمي.

القمة الثلاثية التي جمعت السيسي، وماكرون، والملك عبد الله الثاني، كشفت عن توجه سياسي جاد لإعادة الزخم للقضية الفلسطينية. وقد تناول الاجتماع ملف "حل الدولتين" ورفض الإجراءات الأحادية التي تهدد استقرار المنطقة، في إشارة واضحة إلى السياسات الإسرائيلية المدعومة من إدارة ترامب. هذا التنسيق الثلاثي أعاد التأكيد على محورية الدورين المصري والأردني في إدارة الملف الفلسطيني، بدعم أوروبي واضح.

ماكرون يسعى لترسيخ مكانة فرنسا كقوة متوسطية وازنة، ولا يمكن تحقيق ذلك دون شراكة راسخة مع مصر، بوصفها القوة الإقليمية الأكثر تأثيرا وتعد بوابة إفريقيا وصمام أمان الشرق الأوسط. كما تأتي الزيارة في ظل تقهقر الدور الأمريكي التقليدي في المنطقة، ما يفتح المجال أمام فرنسا والاتحاد الأوروبي لتعزيز نفوذهم الإقليمي.

علاقات مصر وفرنسا اتسمت دائمًا بالتنوع، لكنها في السنوات الأخيرة اكتسبت بعدًا أكثر استراتيجية. التعاون العسكري في صفقات الطائرات والمعدات، والدعم الفرنسي لمشاريع التعليم والثقافة في مصر، أبرز وجوه هذا التقارب. ماكرون أبدى في تصريحاته تقديرًا خاصًا لدور مصر في مكافحة الإرهاب وفي الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، وهو ما يعكس ثقة باريس في القيادة المصرية.

الاتحاد الأوروبي ينظر إلى مصر بوصفها حائط صد أمام الفوضى الممتدة من الساحل الإفريقي إلى المشرق العربي. ولذا فإن دعم مصر اقتصاديًا، سياسيًا، وأمنيًا بات ضرورة أوروبية، لا خيارًا. زيارة ماكرون أكدت هذا التصور، وأعادت طرح فكرة "شراكة المتوسط" بروح جديدة أكثر واقعية وعملية.

منذ مجيء ترامب، اتجهت سياسات البيت الأبيض نحو دعم غير مسبوق لإسرائيل، على حساب أي توازن. وفي هذا السياق، بدت الزيارة كنوع من الرد الأوروبي على هذا الانحياز، حيث تسعى مصر وفرنسا لتشكيل جبهة عقلانية تحافظ على حل الدولتين وتعيد الاعتبار للحقوق الفلسطينية. فرنسا، التي سبق واعترفت بدولة فلسطين رمزيًا، تجد في مصر حليفًا واقعيًا وفعالًا في هذا المسار.

أما الرسائل التي خرجت من هذه الزيارة فهي لا تخص السياسة وحدها، بل تؤثر إيجابيًا على صورة مصر في الخارج، وتعزز مناخ الثقة لدى المستثمرين. كما أنها تعطي دفعة معنوية للسياحة، وترسّخ حضور مصر في الإعلام العالمي كمقصد آمن وجاذب، سواء للسياح أو للشركاء الاستراتيجيين.

زيارة ماكرون لمصر ليست حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل علامة على مرحلة جديدة من التفاعل الإقليمي. في ظل عالم مأزوم، تتشكل تحالفات مرنة، وتبرز قوى إقليمية جديدة تملك الإرادة والخبرة. ومصر، بثقلها التاريخي وموقعها الجغرافي، تثبت مرة أخرى أنها طرف لا يمكن تجاوزه في أي معادلة تخص أمن المنطقة ومستقبلها.


مواضيع متعلقة