رفعت رشاد يكتب: دور القوة الناعمة في التنمية

رفعت رشاد يكتب: دور القوة الناعمة في التنمية

رفعت رشاد يكتب: دور القوة الناعمة في التنمية

باتت القوة الناعمة واحدة من أعظم أدوات التأثير في العصر الحديث، حيث لم تعد الهيمنة مقتصرة على القوة العسكرية والاقتصادية، بل امتدت إلى مجالات الفنون والإعلام والثقافة، لتصبح عنصرًا أساسيًا في تشكيل الوعي المجتمعي وإيجاد فرص عمل جديدة وداعمة للتنمية المستدامة.

إن توظيف القوة الناعمة في هذه المجالات لا يقتصر على تحقيق تأثير رمزي أو ثقافي، بل يسهم بشكل مباشر في توفير مساحات اقتصادية نابضة بالحياة تستوعب الأجيال الطامحة والمبدعة.

تعد القوة الناعمة بوابة ازدهار الفنون ففي ظل التحولات الرقمية والعولمة الثقافية، بات الفن وسيلة للتواصل الحضاري ونافذة للاقتصاد الإبداعي. من خلال تبني السياسات الداعمة للصناعات الثقافية، مثل السينما والموسيقى والمسرح والفنون التشكيلية، تنشأ بيئات عمل جديدة تستوعب الفنانين والمنتجين والمصممين، بل وتتجاوز ذلك إلى الفنيين والعاملين في المجالات اللوجستية المصاحبة.

إن نجاح أفلام معينة أو انتشار أغنيات عالمية يخلق اقتصادًا متكاملًا يمتد من الإنتاج إلى التوزيع والتسويق، وهو ما يعزز من خلق فرص عمل متنوعة ومستدامة.

كما لا يخفى على أحد أن الإعلام نافذة للتأثير وتوفير فرص العمل، فلم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل أصبح قوة مؤثرة قادرة على صياغة الرأي العام وتوجيهه.

ومع تزايد الاعتماد على الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي، ازدهرت وظائف جديدة مثل تحرير المحتوى الرقمي، وإدارة الحملات الإعلامية، والإنتاج المرئي والمسموع، وتصميم المحتوى التفاعلي. هذه الوظائف لم تكن لتوجد لولا التحولات التي أحدثتها القوة الناعمة في منظومة الاتصال العالمي، مما أسهم في خلق بيئات عمل ديناميكية تستوعب طاقات الشباب وتفتح لهم آفاقًا غير تقليدية.

أما الصناعات الثقافية فهي استثمار في الهوية والتنمية، حيث تمثل أحد أعمدة التنمية الاقتصادية، إذ تسهم في تعزيز الهوية الوطنية من خلال الاستثمار في التراث والمنتجات الثقافية.

ومن خلال دعم المشروعات الثقافية، مثل معارض الكتب والمهرجانات الفنية والمبادرات الأدبية، يتم توفير فرص عمل في مجالات النشر، والترجمة، والتصميم، والتسويق الثقافي.

إن هذه الصناعات لا توفر وظائف فقط، بل تخلق حركة اقتصادية تعتمد على الإبداع والابتكار، ما يجعلها ركيزة أساسية للتنمية المستدامة.

وتكتمل الحلقة بالسياحة الثقافية التي تعد جسرا بين الشعوب ومصدرا للرزق، فالقوة الناعمة لا تقتصر على الفنون والإعلام فحسب، بل تمتد إلى السياحة الثقافية، حيث تلعب دورًا في جذب الزوار من مختلف أنحاء العالم عبر المعالم الأثرية، والمهرجانات، والفعاليات الثقافية.

هذا القطاع يُوظف الآلاف من المرشدين السياحيين، والمترجمين، والحرفيين، والعاملين في الفندقة والخدمات السياحية، مما يسهم في تحسين الاقتصاد المحلي وتعزيز الدخل القومي.

تحتاج الفنون والثقافة والإعلام إلى بنى تحتية قوية ودعم مالي يضمن استمرارية نموها. وهنا يأتي دور الحكومات والمؤسسات الاستثمارية في تمويل المشروعات الإبداعية، من خلال تقديم المنح والمساعدات للشركات الناشئة في مجالات الإعلام الرقمي، والمنصات الثقافية، ودور النشر، واستوديوهات الإنتاج الفني.

هذا التمويل لا يعزز فقط هذه القطاعات، بل يخلق بيئة عمل مستقرة تسهم في جذب المزيد من المواهب والكفاءات.

إن توفير فرص العمل في هذه المجالات لا يمكن أن يتحقق دون تأهيل القوى العاملة وتزويدها بالمهارات اللازمة.

وهنا يبرز دور الأكاديميات المتخصصة، والمعاهد الفنية، وورش العمل التدريبية في تنمية مهارات الشباب، سواء في مجالات الفنون التطبيقية، أو الصحافة والإعلام، أو تقنيات الإنتاج الفني.

كما أن الشراكات بين القطاعين العام والخاص تسهم في خلق بيئات تدريبية تواكب تطورات السوق وتتيح فرصًا وظيفية مستدامة.

بفضل التحولات الرقمية، أصبحت ريادة الأعمال الثقافية مجالًا واعدًا يفتح الباب أمام الطاقات الإبداعية لتقديم مشروعات مبتكرة.

فالشباب اليوم قادرون على إطلاق منصات إعلامية مستقلة، وتأسيس دور نشر رقمية، وإنتاج أفلام قصيرة أو موسيقى مستقلة، وتسويقها عبر الإنترنت، ما يعزز من استقلاليتهم المالية ويدعم التنوع الثقافي في آن واحد.

إن القوة الناعمة لا تقتصر على توفير فرص العمل فحسب، بل تمتد إلى خلق بيئة اجتماعية أكثر انفتاحًا وتسامحًا، حيث تعزز من الحوار الثقافي والتفاهم بين الشعوب.

كما أن الصناعات الثقافية والإعلامية تساهم في تحسين جودة الحياة، عبر تقديم محتوى ترفيهي وتعليمي يعكس تطلعات المجتمع ويساعد في تشكيل الوعي الجماعي.

إن الاستثمار في القوة الناعمة ليس مجرد رفاهية، بل ضرورة اقتصادية واجتماعية تضمن استمرار النمو والازدهار. فمع تزايد أهمية الفنون والإعلام والثقافة في تشكيل عالم اليوم، تبرز الحاجة إلى تعزيز هذه القطاعات وإيجاد سياسات مستدامة لدعمها، بما يحقق التنمية الاقتصادية ويوفر فرص عمل لأجيال المستقبل.


مواضيع متعلقة