رفعت رشاد يكتب: أما بعد

رفعت رشاد يكتب: أما بعد

رفعت رشاد يكتب: أما بعد

رغم التقدم التكنولوجي الهائل الذي نعيشه ورغم تأثير هذا التقدم على الحياة السياسية، إلا أن الخطابة السياسية ما زال لها رونقها وتأثيرها على الحشود والجماهير.

اليوم، وإن كانت وسائل الإعلام أخذت من بريق الخطابة التقليدية، إلا أن القادة والخطباء لا يزالون يلعبون دورًا أساسيًّا في توجيه الرأي العام، من خلال المؤتمرات السياسية، والخطابات التحفيزية، وحتى الخطب ذات الموضوعات التكنولوجية مثل تلك التي يلقيها ستيف جوبز تلهم المبتكرين حول العالم.

من أشهر الخطباء العرب كان سحبان وائل، كان خطيبًا بليغًا في الجاهلية، دخل الإسلام، وأورده ابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة ضمن قسم المخضرمين الذين أسلموا في زمن النبي ولم يجتمعوا به، في عهد معاوية بن أبي سفيان، قدم سحبان وائل في وفد من خراسان؛ وطلب منه معاوية أن يخطب، فتكلم منذ صلاة الظهر إلى أن قامت صلاة العصر، ما تنحنح، ولا سعل، ولا توقف، ولا تهته، ولا ابتدأ في معنى، فما زالت تلك حاله حتى أشار معاوية بيده؛ فأشار إليه سحبان أن لا تقطع كلامي، فقال معاوية: الصلاة، قال: هي أمامك: نحن في صلاة وتحميد، ووعد ووعيد، فقال معاوية: «أنت أخطب العرب»، فقال سحبان: «والعجم والجن والإنس».

وقيل إن سحبان هو أول من استخدم عبارة «أما بعد» وهي صيغة من الصيغ التي يتم استخدامها في الخطابات، وتستخدم بعد التحية في الرسائل، وتأتي بمعنى الآن، ولها استخدام عندما يريد الشخص الانتقال من موضع لآخر، ويستعملها العرب عندما يتبادلون الآراء في الخطابات، وتستخدم لكي نلفت بها الانتباه، لذلك تم إطلاق معنى فصل الخطاب عليها.

لكن قيل أيضا أن أول من قال «أما بعد» هو قس بن ساعدة الإيادي، ذلك الخطيب الفذ الذي وقف في سوق عكاظ، يرسل كلماته كالسهم النافذ، فيؤثر في مستمعيه بحكمته وبراعة بيانه، لقد كان العرب قبل الإسلام أهل فصاحة وبيان، ولكن الخطابة لم تتخذ طابعها المؤسسي إلا مع ظهور الإسلام، حين أضحت منبرًا للدعوة والتوجيه.

لكن هناك خلافا على أول من ابتدع وقال «أما بعد»، فقيل إنها لآدم، أو لداود، أو ليعقوب، وفي كل الأحوال هي عبارة صارت صكا للخطب بأنواعها يستخدمها الخطيب كفصل للخطاب لينتقل إلى حديث مختلف، فاصلا ما قبل عما بعد.

منذ أن امتلك الإنسان القدرة على التعبير، كانت الخطابة فنًّا رفيعًا، يجمع بين البيان والسحر، ويُعدُّ سلاحًا يمضي أثره في العقول قبل القلوب، إنها النغمة التي تدغدغ الوجدان، والكلمة التي تفجِّر الثورات، والصوت الذي يُسيِّر الجموع، فمن يا ترى أول من خطب؟ ومن الذي قال «أما بعد» لأول مرة؟ وكيف غيرت الخطابة مجرى التاريخ؟

لكن الخطابة لم تكن الخطابة حكرًا على العرب، فقد ازدهرت في اليونان مع ديموسثينيس، الذي لم يمنعه ضعف نطقه من أن يصبح أعظم خطباء أثينا، ثم جاء الرومان، فكان شيشرون رمز البلاغة وقوة البيان، واستطاع بخطبه أن يغيّر سياسات ويؤثر في قرارات الدولة.

مع بزوغ الإسلام، صارت الخطابة عنصرًا أساسيًّا في نشر الدعوة، والخطابة ليست مجرد كلمات مرتبة، بل هي حالة نفسية تتجلى في قدرة الخطيب على أسر عقول مستمعيه، فالكاريزما، ونبرة الصوت، والوقفات المدروسة، كلها عناصر ترفع من تأثير الخطبة، إن خطباء مثل يوليوس قيصر، ومارتن لوثر كينج، ولينين، وأدولف هتلر، امتلكوا هذه المهارات، واستطاعوا من خلال خطبهم إحداث تغيرات هائلة في التاريخ.

لا تخلو حقبة تاريخية من خطيب غيّر مجرى الأمور بكلماته، فمن نابليون بونابرت، الذي كان يستخدم الخطابة لحشد جيوشه، إلى ونستون تشرشل الذي ألهم بريطانيا في أحلك أيام الحرب العالمية الثانية بقوله: «ليس لدي ما أقدمه سوى الدم والكدح والدموع والعرق».

ما زالت بعض الخطب ترن في الآذان حتى اليوم، مثل خطاب مارتن لوثر كينج «لدي حلم»، الذي أشعل حركة الحقوق المدنية، وخطبة جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس، التي غيرت موازين القوى في الشرق الأوسط، وخطاب الرئيس جون كينيدي «لا تسأل ماذا يمكن لبلدك أن يفعل لك، بل اسأل ماذا يمكنك أن تفعل لبلدك» الذي شكَّل وجدان الشعب الأمريكي في مرحلة حساسة من الحرب الباردة.

إن الخطابة ليست مجرد كلمات تُلقى، بل هي شعور متدفق، يُحدث صدىً في القلوب والعقول، إنها فنٌّ إنسانيٌّ خالد، يبعث الأمل، ويدفع الجماهير نحو التغيير، ويظل شاهداً على قوة الكلمة وتأثيرها عبر العصور، وهي ليست مجرد أداة للإقناع، بل موهبة، سلاح، وفن لا يموت، يشهد التاريخ على دوره في رسم ملامح المجتمعات وتغيير مساراتها.