رفعت رشاد يكتب: التهامي.. مجدد دولة المديح

رفعت رشاد يكتب: التهامي.. مجدد دولة المديح

رفعت رشاد يكتب: التهامي.. مجدد دولة المديح

استطاع ياسين التهامي منذ ما يقرب من أربعين عاما أن يتخذ منحى متطورا في مجال المديح الصوفي، وضع قواعد مرنة وجديدة لأساليب المديح مستفيدا من إمكانياته اللغوية وتعمقه في فهم الشعر الصوفي لكي يكتسب مساحة كبيرة للغاية من المريدين والمعجبين، وجد فيه المريدون نموذجا يناسب الزمن المعاصر، طوع قصيدة المديح للفهم البسيط حتى صار العوام يرددون قصائده ومديحه.

أجاد التهامي المديح الصوفي الذي يعد أحد أهم أشكال التعبير الفني والديني في العالم الإسلامي، حيث يربط بين الروحانية والجمال الصوتي، ويسعى إلى إحياء القيم الصوفية من خلال الإنشاد العذب.

يعود المديح الصوفي إلى القرن الثاني الهجري، بدأ كامتداد للمدائح النبوية التي ظهرت في صدر الإسلام، غير أن الطابع الصوفي للمديح تبلور مع تطور الطرق الصوفية، إذ أصبح وسيلة لنقل القيم الروحية، والتعبير عن الحب الإلهي، ومنذ ذلك الحين، أصبح المديح فنًا له أصوله وأعمدته الراسخة.

وقد شهد التاريخ الإسلامي بروز العديد من المداحين الذين أثروا هذا المجال، مثل البوصيري، صاحب «البردة» الشهيرة، وابن الفارض الذي مزج في أشعاره بين العشق الإلهي والجمال الفني، كما برز في العصر الحديث الشيخ النقشبندي، الذي ارتبط صوته بشهر رمضان، وياسين التهامي الذي حمل راية المديح الصوفي وأحيا ليالي الذكر في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.

ازدهر فن المديح الصوفي بشكل ملحوظ خلال العصور الوسطى، حيث دعمت الطرق الصوفية هذا الفن واعتبرته جزءا من طقوسها الروحية، كما كان للعصر العثماني دور مهم في انتشاره، إذ دعمت الدولة العثمانية الإنشاد الديني، وأصبح المديح وسيلة لنقل التعاليم الدينية وتعزيز الروح الجماعية بين مريدي الطرق الصوفية.

تنقسم مدارس المديح الصوفي إلى عدة مدارس، أبرزها المدرسة المصرية، التي تعتمد على الإنشاد المرتجل والمقامات الموسيقية المتعددة، والمدرسة المغاربية التي تمتاز بالنغمات الأندلسية، والمدرسة التركية التي تستخدم الموسيقى الآلية إلى جانب الإنشاد، وتعد المدرسة المصرية هي الأبرز والأكثر انتشارا بفضل رموزها الكبار.

تتنوع أساليب المديح الصوفي بين الإلقاء الشجي الذي يعتمد على الصوت فقط، والتواشيح التي تجمع بين الأداء الجماعي والموسيقى، بالإضافة إلى المدائح المرتجلة التي تعتمد على التفاعل الحي مع الجمهور، هذه الأساليب تجعل المديح الصوفي فنًا ديناميكيًا يتطور مع الزمن ويحافظ على أصالته في الوقت ذاته.

لا يكون المداح مجرد منشد بصوت جميل فحسب، بل يجب أن يكون متبحرا في علوم الدين والصوفية، ومتمكنًا من اللغة العربية وأوزان الشعر، إلى جانب تمتعه بحضور روحي قوي وتأثير وجداني على مستمعيه، والمداح المتفوق هو الذي يستطيع توصيل المعاني الروحية بصدق وإحساس عالٍ.

ويعد ياسين التهامي أحد أبرز المداحين في العصر الحديث، حيث استطاع أن يربط بين القديم والحديث بأسلوب فريد، مستخدمًا صوته العذب وإحساسه العميق لنقل التجربة الصوفية.

تميّز التهامي بقدراته الارتجالية العالية، وتنوعه بين المقامات، وهو ما جعله محبوبًا في أوساط المتصوفة وعامة الناس على حد سواء، وتتويجه بلقب شيخ المداحين اعتراف بمكانته الكبيرة في هذا الفن، وتقدير لدوره في إحياء المديح الصوفي ونشره عالميًا، فبفضل جهوده، أصبح الإنشاد الصوفي أكثر انتشارًا وتأثيرًا، مما يعكس عمق تأثير المديح كقوة ناعمة لمصر في العالم الإسلامي.

رغم تغير الأزمنة وتطور الفنون، يظل المديح الصوفي فنًا خالدًا يعكس الروحانية الإسلامية بأبهى صورها، ومع تكريم ياسين التهامي، يمكن القول إن المديح الصوفي سيبقى حاضرًا بقوة، يحمل معه عبق التاريخ، ويجدد حضوره في قلوب المريدين وعشاق الفن الصوفي حول العالم.