«المسحراتي».. حكايات وروحانيات من «القاهرة» لـ«أسيوط»

«المسحراتي».. حكايات وروحانيات من «القاهرة» لـ«أسيوط»

«المسحراتي».. حكايات وروحانيات من «القاهرة» لـ«أسيوط»

«وفاء» بائعة خضار وفاكهة نهاراً ومسحراتى ليلاً: أستخدم مكبر صوت لإيقاظ الأهالى بمعاونة زوجى

«عم ويليام»: اللى خلانى فكرت أشتغل فى المهنة دى إن زمان كان فيه راجل كبير من عندنا شغال فيها وتوفى

يجوبون الشوارع بفرحة، حاملين بين أيديهم طبلة صغيرة أو علبة صفيح، يقرعون عليها بأيديهم عدة مرات متتالية، لا يملون من تكرار تلك المهمة يومياً طوال الشهر، معتمدين على النداء بصوت عالٍ، بواحدة من أشهر العبارات على الإطلاق.. «اصحى يا نايم.. وحد الدايم.. رمضان كريم»، جملتهم المعهودة التى اعتادوا عليها فى هذا التوقيت من كل عام.

«الوطن» تستعرض حكايات مختلفة لرحلة المسحراتى فى مختلف المحافظات، بداية من القاهرة، وصولاً إلى أسيوط، يرويها كل منهم، مبتسماً فرحاً بما يقدمه لجيرانه وأصدقائه.

دلال عبدالقادر، الشهيرة بـ«أم أحمد»، ساقتها الأقدار لتعمل فى هذه المهنة المؤقتة على حد تعبيرها، بدلاً من شقيقها الذى عمل بها لسنوات حتى وفاته، فرغبت فى أن تكمل مسيرته: «أنا أصلاً باشتغل مكوجية وطباخة لكن السحور ده جه بالصدفة معايا كده من ساعة وفاة أخويا، لأنه كان بيسحر منطقة المعادى كلها، والناس كانت بتحبه وتدعى له وكان بيفرّح كل الناس، فأنا ماحبيتش الخير اللى كان بيعمله يتقطع، فبقيت مكانه، بقالى دلوقتى 18 سنة».

أصبحت «دلال»، 52 عاماً، المسحراتية، معروفة من الجميع، يحب الأهالى سماع صوتها وهى تدعوهم إلى السحور كل ليلة، فلها طريقتها المميزة، التى جعلتها تحتل مكانة خاصة فى قلوب أطفال المعادى، إذ تخرج كل يوم فى رمضان حاملة بين يديها طبلة متوسطة الحجم تقرع عليها بواسطة «خرطوم»، صغير، لتُنبه النائمين وتوقظهم: «باقابل الأطفال وكلهم بيجروا عليّا ويحضنونى، وباغنى ليهم أغانى زمان زى «موال سيد مكاوى» وغيره، علشان أفكرهم بالأغانى دى، لدرجة أنهم حبوها واتعلقوا بيها جداً، وبقوا يطلبوها منى على طول، باخليهم يعملوا دائرة كده حواليا وبافضل أغنى لهم، وبيكونوا مبسوطين جداً».

تقضى ابنة المعادى ما يقرب من 4 ساعات يومياً، بداية من منتصف الليل وحتى قُرب أذان الفجر، متجولة بين الشوارع والأزقة، بداية من شارع 77 إلى سوق السد العالى، ورغم المسافة الطويلة، إلا أنها لا تلقى بالاً بذلك، فعلاقتها الوطيدة بجيرانها تدفعهم فى كل مرة إلى مناداتها من أجل السحور برفقتهم فى أجواء تكسوها المحبة والألفة والونس: «طول مانا ماشية، خير ربنا كتير، خاصة وسط الناس الطيبة دول، هتشوف رمضان الحقيقى بتاع زمان، باحاول كمان أشارك فى موائد الرحمن، أو مثلاً مع جيرانى بنروح ننظف الجوامع، كله بثوابه، وشهر رمضان عاوز كده وربنا يقدّرنا».

ومن القاهرة إلى القليوبية، تروى «وفاء» تجربتها فى مهنة المسحراتى قبل 6 أعوام تحديداً فى وقت «كورونا»، إلى جانب مصدر رزقها الأساسى، وهو بيع الخضار والفاكهة، ولم يكن عملها محض الصدفة، فكان جدها يعمل فى المهنة ذاتها قديماً: «اللى خلانى أفكر فى الشغلانة دى، إن حمايا أصلاً مسحراتى، وجدى الله يرحمه كان كده برضه»، ويشارك «وفاء» زوجها وأبناؤها، حيث اعتادت على الخروج برفقتهم فى كل ليلة، فى أجواء مليئة بالفرحة والسعادة: «زوجى بينادى بميكروفون ومعاه طبلة علشان يصحّى الناس، وأنا كمان بانده معاه، وكمان الميكروفون ده بيكون ليه سلك وبطارية وصعب يشيلهم علشان بيكون ماسك الطبلة، فأنا باساعده وبافضل ماسكاهم عنه علشان مش بيعرف لوحده، والواحد بيكون مبسوط جداً وكمان إحنا مش بناخد مقابل على ده، كفاية فرحتنا وفرحة الناس».

تخرج فى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ويمتد مشوارها حتى الثالثة قبل الفجر، وفور عودتها إلى منزلها تستعد لتحضير السحور، ومن ثم تنتظر سماع صوت الأذان لتأدية صلاة الفجر فى جماعة برفقة أسرتها، وتذهب إلى النوم وتستيقظ مبكراً من أجل الذهاب برفقة زوجها لمواصلة عملهم فى بيع الخضار، وتستمر على هذا المنوال طوال شهر رمضان الكريم: «بنخرج الصبح وبنرجع قبل المغرب، باجهز الفطار، وبعدها بيروح يجيب الزرع وبيفضل صاحى لحد السحور، وبنتسحر وننام الساعتين بتوع الفجر بس على كده طول شهر رمضان».

وعادة ما يخلق رمضان أجواءً من الألفة والمودة بين المسلمين والأقباط، وهذا ما دفع «عم ويليام» ابن محافظة أسيوط، 60 عاماً، إلى العمل فى المهنة قبل 3 أعوام، إذ يخرج عادة بعد منتصف الليل ليعود قرابة الثالثة فجراً، بعد أن يأخذ جولته المعتادة فى شوارع قرية المدمر: «اللى خلانى فكرت أشتغل فى المهنة دى، أن زمان كان فيه راجل كبير من عندنا شغال فيها وتوفى، ومن وقتها قررت أكون مكانه، والحمد لله الناس كلها بتحبنى وعرفانى، وعمرى ما اتأخرت عنهم فى يوم، لأن الناس خلاص بقت مسئولة منى ومستنيانى أصحيها كل مرة، كنت الأول معايا ماكينة زى تروسيكل كده بس بعته، وحالياً بالف على رجليا، ورغم ذلك عمرى ما اتأخرت عنهم، كفاية محبتهم ليّا بالدنيا».

يعتاد الرجل الستينى على حمل طبلة صغيرة بين يديه، يطرق عليها عدة مرات، وبمجرد سماع الصغار إليها يلتفون من حوله، لترتسم اللوحة كاملة، وتعلو الابتسامة شفتيه، ومن ثم ينادى بعلو صوته: «اصحى يا نايم وحد الدايم.. رمضان كريم»، بصوت تملأه الفرحة وسط تهليل وتصفيق الصغار من حوله، معبرين عن فرحتهم بهذه الأجواء.

يقتصر خروج عم ويليام على شوارع قريته فحسب، لأنه يحفظها عن ظهر قلب، رغم كبر سنه، فقد باتت هذه مهنته المؤقتة التى يعمل بها فى شهر رمضان من كل عام، فهى ملاذه وأنيسه الدائم وعوضاً له عن أولاده الذين لم ينعم بهم الله عليه، وخلاف شهر رمضان يعود عم ويليام إلى عمله الأساسى، وهو بيع الخضار فى مكان خاص فى أول قريته.

وفى أسيوط، ذاع صيت الشيخ ناجح حامد المسحراتى، ورغم كونه فاقداً للبصر، إلا أن بصيرته تقوده دوماً إلى البيوت والشوارع بمنتهى السهولة، فهو يعرف الجميع، الصغير والشاب والكهل، فكل بيت يعرف من يسكنه، ينادى كلاً منهم باسمه، إلا أنه فى بعض الأحيان ونظراً لصعوبة حركته، فهو يبلغ من العمر 61 عاماً، يرافقه شخص آخر يساعده فى مسيره داخل مركز ديروط، وتحديداً قرية عواجة.

قبل 20 عاماً، عمل «ناجح» فى هذه المهنة، التى لم تكن فى الحسبان، إلا أنه وجد نفسه بين عشية وضحاها مسحراتى القرية: «والله ماكنتش مرتب لده بس سبحان الله لقيت نفسى هنا، والحمد لله على رزقه، وكفاية الأجر والثواب اللى الواحد بياخده»، ويقضى 3 ساعات متواصلة فى إيقاظ أهالى القرية بداية من الساعة الواحدة ليلاً وحتى الرابعة فجراً، إلا أنه يشعر بسعادة فى تلك المدة القصيرة، لتكون هذه مهنته الأساسية التى يكرس لها حياته خلال هذا الوقت من كل عام، فهو لا يعمل بأى شىء آخر طوال السنة.


مواضيع متعلقة