رواية يحكيها أحمد رامي عن أم كلثوم

يوسف القعيد

يوسف القعيد

كاتب صحفي

ما زالت أصداء جنازة أم كلثوم أسمعها، بكاء الناس وإصرارهم على وداعها لمثواها الأخير. يومها قلنا إنها أضخم جنازة بعد جنازة عبدالناصر 1970.

كانت جنازة مهيبة، عبّرت الجماهير المصرية والعربية عن حبها لها ولفنها وغنائها وصوتها.

بعد رحيلها صدرت عنها كتب يمكن أن تشكل مكتبة لمن يشاء الاحتفاظ بها، وأتمنى أن تكون موجودة في متحفها، وأن يتم الاحتفاظ حتى بالدراسات المكتوبة باللغات الأجنبية، فأم كلثوم جزء عزيز وغالٍ من تاريخنا الذي يجب الحفاظ عليه.

من الأعمال التي صدرت عنها رواية أتوقف أمامها اليوم.

«كان صرحاً من خيال» رواية من تأليف سليم نصيب، ترجمها بسام حجار، والمؤلف سليم نصيب وُلد في بيروت 1946، عاش في باريس من 1969 وعاد إلى بيروت وعمل في «بروش أورينت» على فترات مختلفة، لست في حاجة لإعادة التأكيد أن كل ما سأعرضه خيال في خيال. ربما يستند لوقائع في حياة الأبطال، لكنه يبقى خيالاً.

الرواية تقع في أربعة أجزاء، مقسمة حسب سنوات وقوع الأحداث، الجزء الأول من 1924 إلى 1928، والثاني من 1932 إلى 1938، والثالث من 1950 إلى 1956، والرابع من 1956 إلى 1975.

وهي مروية على لسان أحمد رامي من الكلمة الأولى للأخيرة. لست في حاجة إلى القول إن المؤلف سليم نصيب، قد دخل تحت جلد أحمد رامي، ولعب لعبة القص الروائي مستخدماً ضمير الأنا، وهو أكثر الضمائر راحة بالنسبة للكاتب والقارئ، تعال نقرأ ما كتبه الروائي اللبناني على لسان شاعر الشباب:

«كنت قد فتحت ذراعي لغمرة العناقات الرجولية والضحكات، كانت أمي لا تكف عن سكب الطعام في طبقي وتراقبني، كان عليّ أن ألتهم مسقط رأسي كله في وجبة واحدة. إنه التخاطب بالعربية مجدداً، تتناهي إلى مسمعي رنة هذه اللغة الرائعة. إنها بلادي.

عرفت باريس -يحكى أحمد رامي- ولكن كيف أروي لأمي وأختي سلوى وهما اللتان تعرفان معنى غيابي ثلاث سنوات. إخوتي وأخواتي الخمس الآخرون لا يدركون أنني عدت بشهادة من السوربون. أصبحت رب الأسرة وأنا في الثالثة والعشرين، محمد عبدالوهاب صديقي الوحيد هو الذي أنقذني مما أنا فيه. إنه ببدلته الغربية وطربوشه، خطفني منهم وسِرْنا في الشارع.

كنا في نفس العمر. وانفتحت أمامه أبواب الشهرة. مطرب وملحن وموسيقار. لا أعرف لمَ اختارني صديقاً له؟ الشوارع يتنازعها الطرابيش والعمائم. فاتني يوم الاستقلال، أنا الوحيد الذي ألبس البيريه، دخلنا المسرح وكانت الفرقة هناك. فلاحان يرتديان الجبة ويعتمران العمامة وسطهما صبي يداه فوق بطنه، تناهي إلىَّ صوت الفتى. راح الصوت يتلو القرآن الكريم. بعد الاستحسان عاود الإنشاد.

صعد الدم إلى رأسي، كان ينشد أبياتاً من شعري، كنت قد كتبتها قبل رحيلي «الصب تفضحه عيونه» قصيدتي تنشدها الشفتان البدويتان. استطاع الفتى الأمرد تجسيد الألم والرقة التي كنت أحاول التعبير عنهما، أعرف اللحن. الشيخ أبوالعلا لحّن القصيدة وأنشدها وطبعها على أسطوانة.

نهضت هاتفاً. كان الفتى يُحيي الجماهير، وانحسر طرف عباءته عن نحره فسارع يجمعها. وفي أقل من ثانية واحدة، استطعت أن ألمح في انحسارها الخاطف استدارة نهد تحت زي الفلاحين الخشن. خلعت عمامتها، فبدا شعرها الأسود. لقد غنيتُ لك هذا المساء، قالت لي. إنها بدوية، من بلدة «طماي الزهايرة»، والآخران: والدها وشقيقها. كانت تكسب في ليلة واحدة ما يكسبه والدها بسنة. جمد الكلام فوق لساني. أمسكت بيدها ورفعتها إلى شفتي ألثمها. تحية صامتة، أصابعها استسلمت لكفى وتراخت».

هكذا كان اللقاء الأول بين رامي وأم كلثوم. كان اسمها: فاطمة إبراهيم البلتاجي. ويكمل رامي:

«وجدت الشيخ أبوالعلا جالساً في حديقته. أعطيته ما أحضرته له من باريس. لم يستطع الحضور لمقابلتي لمرضه. كان صديقاً لوالدي وساعدني في طبع ديواني الأول. قال عنها: أعرف قدرتها الدفينة. لم تعط منها إلا القليل. سألته: قل لي كيف قابلتها لأول مرة ببلدها؟ وكيف جاءت للقاهرة؟ قال إنها شغيلة. تستعجل كل شيء كأنها ستموت غداً».

ويعود رامي بحكايته لباريس:

- «ذهبت إلى باريس لتعلم الفارسية لأترجم رباعيات الخيام للعربية، أما ترجمتها الموجودة فكانت بالإنجليزية. وهناك درست علم المكتبات. وبعد عودتي كنت أترجم الرباعيات».