«التهجير».. وعقيدة الأرض والهوية
يتصاعد الحديث يوما بعد يوم حول تهجير سكان قطاع غزة، لكن هذا الحديث غير الواقعي سيتبدد كما ولد ميتا، الفلسطيني بعقيدته الراسخة المتمسكة بالأرض الذي ذاق معنى اللجوء والتهجير القسري من بلداته وقراه عام 1948، لا يمكن أن يعيد الكَرة مرة أخرى، لقد استفاد من الدرس القاسي عام 1948، وتعلم كيف يكون الحفاظ على الأرض، وما الأثمان الباهظة التي سيدفعها مقابل ذلك؟
رغم أنه دفعها مسبقاً بصموده الأسطوري لمدة خمسة عشر شهرا من الحرب الضروس، التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على القطاع دون توقف، قتلت ودمرت وهجرت وجوعت، ولم تتوان عن ارتكاب أفظع الجرائم بحق السكان، وصلت إلى حد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، باعتراف محكمة العدل الدولية ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية، فهل يمكن بعد كل هذه التضحية التي لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلاً أن ينفذ مخطط التهجير ضد هذا الشعب المرابط الصابر على البلاء؟
الحقيقة أن الفلسطينيين فى غزة يسخرون من تلك المخططات العبثية، ويتندرون فيما بينهم على سذاجة من طرحها ويعتقد أن بإغراء المال والحياة المرفهة التي تنتظر سكان القطاع خارجه، ستكون الجنة المنتظرة لهم! هم يدركون تماماً معنى اللجوء والنزوح وفقدان الهوية والوطن، عقيدتهم وثقافتهم وثوابتهم ونضالهم هي حائط الصد المنيع الذى يحميهم من هذا الهراء، وتلك المخططات الشيطانية التي ما فتئ الاحتلال الإسرائيلي على إحيائها كلما سنحت الظروف منذ أن أعلن عن دولته عام 1948.
خطة تهجير الفلسطينيين من غزة أثارت غضب واستياء ورفض دول العالم كافة، فلم يلفت نظر الإدارة الأمريكية ولو قليلاً مشاهد مئات الآلاف من الفلسطينيين العائدين مشياً على الأقدام الحافية إلى أنقاض بيوتهم وأحيائهم، ولم يلفت نظره الموقف الأردني والمصري الرافض من حيث المبدأ مناقشة أي احتمال لتهجير سكان القطاع، والأهم لم يلفت نظره أن غزة التي عاشت ما لم يعانه شعب آخر قصفاً وتدميراً وقتلاً وخراباً تمسكه بالعودة ولم ينحرف عن بوصلة الاحتضان الشعبي للمقاومة، ولم يتراجع عن دعمها والالتفاف حولها أياً كان الثمن.
أهل غزة قدموا الدليل تلو الدليل على أن مشكلتهم لا تكمن فقط فى الاحتفاظ بأرضهم وحمايتها والدفاع عنها، بل إن مشكلتهم الأساس هي العودة إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها عام 48، ومشكلتهم الأكبر هي استعادة القدس بما تحتويه من مقدسات إسلامية ومسيحية، وبما تشكل من ركن جوهري فى اعتقادهم الديني واستيعابهم لمكنونات تاريخهم الحضاري، ومن أجل ذلك يقدمون أرواحهم رخيصة من أجل الوصول إلى هذا الهدف جيلاً بعد جيل.
إن ثبات سكان قطاع غزة على العهد ورفضهم التهجير جملة وتفصيلاً، تبدو واضحة فى الفيديوهات المنتشرة لسكان الشمال والجنوب الذين نزحوا من بيوتهم مرغمين، وهم ينصبون الخيام على أنقاض بيوتهم المدمرة، أو وهم يزيلون الركام من بيوت لم يبق فيها سوى جدران معلقة فى أقل من نصف ساعة.
نجح شعب الجبارين فى إرسال رسالة منذ اللحظة الأولى بأن هذا الأمر لن يتحقق حتى لو ظلوا سنوات يقبعون فى الخيام دون ماء ولا كهرباء ولا أي من مقومات الحياة الآدمية، من منطلق تمسكهم العقائدي بتراب وطنهم، وملح أرضهم الذى لم يغب عن ذاكرتهم منذ هُجروا من مواطنهم الأصلية التي تعتبرها إسرائيل أرضها ولم يتمكنوا من العودة إليها، لذا هذا المخطط التافه والساذج لن ينطلي عليهم مرة أخرى حتى لو كلفهم ذلك أرواحهم، والتي هي القيمة الأعلى والأغلى فى قاموس التضحيات على الإطلاق.