د. نظير محمد عياد يكتب: نبي الله عيسى ورسالة المحبة والرحمة

كتب: الوطن

د. نظير محمد عياد يكتب: نبي الله عيسى ورسالة المحبة والرحمة

د. نظير محمد عياد يكتب: نبي الله عيسى ورسالة المحبة والرحمة

منذ أن بزغ نور الوجود، وأشرقت الأرض بوجود الإنسان، كانت الرسالات السماوية هى الحبل المتين الذى يصل الأرض بالسماء، والميزان الإلهى الذى يعيد للنفس الإنسانية توازنها بعد أن تميد بها الخطايا، فأرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين، يحملون فى أيديهم مشاعل الهداية، وفى قلوبهم أنوار الرحمة والمحبة التى تتسع لتشمل البشرية جمعاء، وما كانت تلك الرسالات إلا تجليات لرحمة الله بعباده، ترسم للإنسان خارطة النجاة، وتغرس فى روحه قيم الحق والخير والجمال، فلم تكن مجرد كلمات تُلقى على مسامع البشر، بل كانت ثورة على الظلم والجهل والضياع، تستنهض الضمائر الغافية، وتُعيد صياغة المجتمعات على أسس من العدل والمحبة.

يقول الله تعالى: «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»، أراد الله بها ومن خلالها أن يكون للإنسانية مرجعٌ سامٍ، يستنهض قيمها، ويعيد صياغة وجودها على أسس العدل والإحسان. يقول الحق سبحانه «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ»، وهكذا كانت الرسالات ميزاناً دقيقاً يقيم العدل بين الناس، ويعيد للنفس الإنسانية مكانتها بوصفها مخلوقاً كرَّمه الله وفضَّله.

ومن بين هذه الرسالات، كانت رسالة نبى الله عيسى عليه السلام، التى حملت فى طياتها مشاعر المحبة والخير، فلقد أرسل الله نبيه عيسى عليه السلام، فى زمن كثرت فيه الفتن وضاعت القيم، فجاء برسالة قائمة على المحبة والسلام، تدعو إلى الرحمة وترسيخ معانى التآلف بين البشر.

يقول الله تعالى فى محكم كتابه على لسان نبيه عيسى عليه السلام «وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً»، بهذه الكلمات وصف نبى الله عيسى عليه السلام نفسه، مؤكداً على رسالته التى تهدف إلى الإصلاح ونشر الخير، فلم تكن دعوته عليه السلام محصورة فى خطاب فلسفى بعيد عن الواقع، بل كانت تعاليمه حيّة ملموسة فى أفعاله قبل أقواله، جسّد عليه السلام مفهوم الحب قولاً وعملاً. عالج المرضى، واحتضن المساكين، وأعلن أن جوهر الإيمان يكمن فى محبة الله ومحبة الناس.

وفى هذا الإطار، نجد أن وصية الجبل التى ألقاها نبى الله عيسى عليه السلام، تُعد من أرقى وأعظم الوصايا التى نُقلت إلى البشرية، لأنها تُركز على معانى الحب والرحمة، هى منهج ينبغى أن يُترجم إلى أفعال فى حياة البشر، هى دعوة إلى التواضع، والرحمة، والسعى من أجل صالح المجتمع.

هى ميثاق سماوى أزلى، تتردّد أصداؤه فى عوالم القلوب، وتغمر عقول البشر بنور لا ينطفئ، ففى تلك الكلمات تجلّت أسمى معانى الإنسانية فى أبهى صورها، وحملت بين سطورها رسالة عميقة، تعكس عظمة الوحى السماوى الذى جاء لينير الطريق للبشرية فى هذا التوقيت، ويعيد إلى النفوس توازنها فنجد فيها «طُوبَى لِلمسَاكِينِ بِالرُّوحِ»، تلك الكلمات البسيطة التى تحمل فى طياتها دروساً عن عظمة التواضع، وتجلِّى قوة القلب الذى يتواضع رغم عظمتِه، إن هؤلاء الذين تخلوا عن جشع النفس، واستعلى تواضعهم على رغبات الدنيا، هم من يسكنون قلب الرحمن.

وهم الأقدر على تمثّل الحقائق الكونية التى لا يدركها إلا القليل، فالحكمة هنا لا تكمن فى امتلاك الجاه أو المال، بل فى إعلاء الروح فوق كل ما هو زائل، فى الصدق مع النفس، فى أن تكون شجاعاً فى أفعالك، عميقاً فى مشاعرك، كذلك دعوته عليه السلام إلى التسامح، والعفو، والحلم، فقد نقل عنه قوله وهو يعظ أتباعه «سمعتم أنه قيل عين بعين، وسن بسن، وأما أنا، فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن، فحوّل له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك، ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخّرك ميلاً واحداً، فاذهب معه اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده».

ومما ورد أيضاً فى عموم وصيته عليه السلام «سمعتم أنه قيل تحب قريبك، وتبغض عدوك، وأما أنا، فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم، ويطردونكم».

لقد حاول السيد المسيح عليه السلام من خلال هذه الوصية الجامعة أن يُحدث توازناً فى المجتمع الذى عاش فيه، فبرزت توجيهاته كشعلة نور وسط ظلمات مجتمع رومانى عصفَت به النزاعات الحربية وغلبت عليه الدماء والقسوة، فكان مُدركاً أن هذا المجتمع كما هو بحاجة إلى تشريع يُنظم حياته، فهو أيضاً فى أمسّ الحاجة إلى نفخة تردُّ الروح إلى القيم الأخلاقية التى اندثرت تحت وطأة الفساد المستشرى والأنانية الطاغية، فجاءت دعوته عليه السلام مغايرة لكل ما ألفوه، فكانت دعوة إلى المحبة والسلام تستنهض الأرواح وتفتح أبواب السماء للنظر فى أفعال البشر.

جاء لينفض غبار الغفلة ويرفع راية الفضائل، ويحذر من السقوط فى هاوية الرذائل، أراد أن يعلمهم أن الإنسان لا يُقاس بقوة جسده وسلاحه، بل بعاطفته الصافية، وبرحمة تسرى فى قلبه لتُفيض خيراً على الآخرين، إلا أن هذه الرسالة السامية لم تكن سهلة الاستيعاب أو التطبيق، فقد واجهت أتباعه صعوبة فى إدراك عمق دعوته، إذ كانت أفكارهم وقلوبهم قد تشبّعت بروح العصر القاسية، التى جعلت من السلام ضعفاً، ومن المحبة ضرباً من الخيال، وهكذا، ظلت تعاليمه أسمى من أن يحتويها واقعهم، لكنها زرعت بذوراً خالدة امتدت آثارها إلى ما هو أبعد من ذلك الزمن، لتبقى شاهدة على أن الإصلاح الحقيقى يبدأ من القلوب قبل النصوص.

وأود التأكيد فى ختام هذا المقال على أمر غاية فى الأهمية، وهو أن هذه التعاليم يجب ألا توجّه إليها سهام النقد بأى حال فى وقتنا الراهن، فهى تعاليم خرجت من معين النبوة فى سياق ظروف خاصة، ولمعالجة أوضاع محدّدة. إنها تعاليم وُلدت من رحم بيئتها، وأدت رسالتها على أكمل وجه فى زمانها، حيث نجحت فى كبح جماح الظلم، ولجم نوازع الانتقام، وحصار الشر المستشرى فى بنى إسرائيل، الذين بُعث إليهم المسيح عليه السلام نوراً وهداية.

                                                                    * مفتى الجمهورية


مواضيع متعلقة