هدى زكريا تكتب: الشخصية المصرية وترويض الخطر

كتب: هدى زكريا

هدى زكريا تكتب: الشخصية المصرية وترويض الخطر

هدى زكريا تكتب: الشخصية المصرية وترويض الخطر

اعتاد سكان الغابات المَطيرة الواقعة على مرتفعات البحر الأحمر بشرق المحروسة أن يمارسوا الحياة السهلة التي تقوم على الجمع لثمار الأشجار وصيد حيوان الغزال والأرانب البرية. ثم بدأت التغيرات المناخية التدريجية الناجمة عن انحسار الأمطار تقلق السكان الذين بدأوا في التحرك بحثا عن الماء والكلأ بعد أن عاشوا الجفاف المخيف الذي يهدد البقاء على الحياة.

وكانت لحظة الوصول إلى ضفاف النيل هي بداية جديدة لنَمَط حياة الزراعة البدائية على ضِفاف النهر الخالد، لكن معاناة جديدة تبدأ «بالصراع» الذي قام بين مَن وصلوا مبكرين إلى ضفاف النهر، والذين وصلوا متأخرين، الذين لم يجدوا مكانا يحتويهم مع من سبقوهم، ولا نستطيع أن نعرف مُدّة هذا الصراع لأنه حدث قبل التاريخ المسجل. وما يهمنا هنا أن نؤكد أنّ حالة الصراع قد انتهت باكتساب المتصارعين لدرجة عالية من النُضج السياسي والاجتماعي، حولت الكل المشتت إلى ذوبان الكل في واحد جمعي مستقر، وذلك من خلال إبداع أول حكومة في التاريخ، التي تكوَّنَت من مجموع المهندسين الزراعيين والأطباء، والتي سمَّاها المؤرخون «حكومة المهرة والفنانين»، والتي لم تكن تضيِّع وقتا كحكومة فلاسفة اليونان القديمة.

وهكذا تكوَّنت الشخصية المصرية على نار التاريخ الهادئة، فصار لديها ذلك الوعي النادر بدورها الحضاري ومسؤوليتها التاريخية، خاصة بعد أن اكتشف المصريون أنهم قد صاروا أُمَّة تعيش في خطر الطامعين من جيرانها، الذين انقسموا إلى فريقين: الراغبون في الهِجرة إلى المحروسة، التي مثَّلت حِلْم الحياة الآمنة والرخاء. والثاني هو فريق الطامعين في السيطرة على خيرات النهر الخالد.

وهنا أدرك المصريون أنهم «أُمّة تعيش فى خطر»، فقام المصريون بعملية «ترويض الخطر» فدافعوا عن المحروسة في مواجهة أربعين أمة غاشمة طمعت في الاستيلاء على النهر والأرض ابتداءً من الهكسوس والحيثيين مرورا بالرومان والعثمانيين وانتهاءً بالإنجليز. وقد رحَّبت المحروسة بالقادم المُحِب وفقا للمَثَل القائل «من حبّنا حبناه وصار متاعنا متاعه.. ومن كرهنا كرهناه ويحرم علينا اجتماعه» وقد أبدَعَت الشخصية المصرية فَنّ الدفاع عن المحروسة. فكان المصريون يقومون بترويض الخطر عندما ينهزمون عسكريا من جيوش العدو القوية، بهزيمة العدو ثقافيا بإغلاق جميع أبواب التفاعل والتواصل الثقافي مع المحتل تمهيدا لإعداد العُدّة لطرده، ليس فقط من أرض المحروسة وإنما من صفحات التاريخ كله.

فإذا راجعنا قائمة الدول الأعضاء بهيئة الأمم المتحدة فلن نجد أى اسم للتتار أو الفُرْس أو العثمانيين.. إلخ، بينما يتصدر اسم مصر المحروسة أعظم القوائم. وقد أبدى (هيرودوت)، المؤرخ الإغريقي، دهشته عندما نزل على شاطئ الإسكندرية قبل الميلاد بألف وخمسمائة سنة، قائلا: «وجدت شعبا لا مثيل له لأن ثلثهم من الأجانب». فلم تضع مصر اللاجئين في مخيمات أو معسكرات. وقد وَصَفَها (ابن بطوطة)، الرحالة المغربي، في مذكراته، قائلا: عندما تذهب إلى مصر المحروسة لا تأخذ متاعا ولا أحمالا ثقيلة، لأنك ستجد عندها كل ما تحتاجه من إقامة وطعام، فالمصري يستضيف القادم المحتاج في التكايا والأسبلة بكرمه المعتاد. وإذا كانت مصر الوحيدة التي انفردَت بقدوم الأديان السماوية الثلاثة، فإن الشخصية المصرية أَرْسَت قواعد الديمقراطية الدينية بالهتاف الشعبى للبُسطاء: «موسى نبي وعيسى نبي ومحمد نبي، وكل من له نبي يصلى عليه».

وهنا ينبغى أن نؤكد فشل محاولات أعدائنا التاريخيين في التآمر على الشخصية المصرية باستخدام آليات التفكيك وسياسات: «فَرِّق تَسُد».

ولعل نجاح المتربصين ببلادنا في رسم صورة مُمَزَّقَة للدول العربية والأفريقية المحيطة بالمحروسة، يصوِّر لهم أنه من الممكن تفكيك ضميرنا الجمعي واصطناع خلافات مذهبية ودينية وعرقية. ولذا كان علينا واجب مهم هو إنعاش الذاكرة التاريخية للمتآمرين على المحروسة، فنقول لهم: «إن كنتم نسيتوا اللي جرى نجيب الدفاتر تِتقرا»، ونذكرهم بالمثل الشعبي المصري وهي تخاطِب أعداءها قائلة «إن كنتم نار، فإنكم تعجزون عن حَرْق مطرحكم».


مواضيع متعلقة