إسرائيل في وحل غزة (1)

عمار على حسن

عمار على حسن

كاتب صحفي

مع إصرار إسرائيل على مواصلة العدوان على قطاع غزة، لن يكون أمام المقاومة الفلسطينية هناك من سبيل سوى ممارسة «حرب استنزاف» ضد جيش الاحتلال، وصفها «أبوعبيدة»، الناطق باسم كتائب القسام (الجناح العسكرى لحركة المقاومة الإسلامية حماس) بأنها «وحل غزة»، وذلك فى معرض تعليق له يوم 15 سبتمبر على ضرب الجيش اليمنى لتل أبيب للمرة الثانية. 

وتجربة «حرب الاستنزاف» تخوضها المقاومة الفلسطينية للمرة الثانية فى تاريخها، بعد معركة الكرامة عام 1970، حيث جرّب الفلسطينيون على مدار أكثر من نصف القرن وسائل أخرى للكفاح، منها الانتفاضات الشعبية، والعمليات الاستشهادية، والاشتباكات المحدودة عند نقاط التماس، والقصف الصاروخى، الذى يرمى بالأساس إلى تخفيض قدرة الجيش الإسرائيلى على تحقيق الأمن للمجتمع اليهودى.

نعم، خاضت المقاومة فى غزة تجربة التهديد المستمر للجيش الإسرائيلى من خلال عمليات فردية، وضربات جماعية محدودة، أجبرته على الانسحاب الأحادى من القطاع فى أغسطس من عام 2005، لكنها كانت مختلفة فى الدرجة والأساليب والكثافة عما تعتزمه فى الوقت الراهن، كما أنها لم تكن واقعة فى أتون حرب ضروس، وإنما فى سياق كفاح، يزاوج بين الطرائق المسلحة والمدنية خلال احتلال إسرائيل للقطاع على مدار 38 عاماً.

وحرب الاستنزاف، وفق القواميس العسكرية، هى قتال محدّد مستمر، يرمى إلى إضعاف وتدمير أفراد العدو، من كل الأسلحة، خصوصاً القوات البرية، وكذلك تكبيده خسائر مادية، وتحطيم معنوياته، حين يتم جره إلى مواجهات متقطعة، أو غير محسومة، تستغرق فترة طويلة، تحرمه من بلوغ النصر، وتسمح للمقاومين بترتيب أوراقهم، ورصّ صفوفهم، استعداداً لمواجهة حاسمة فى ما بعد.

ظهرت هذه الممارسة للمرة الأولى خلال الحرب العالمية الأولى فى الهجمات البريطانية والفرنسية على التحصينات الألمانية، ثم شاعت خلال الحرب العالمية الثانية، لاسيما فى معركة ستالينجراد ضد الألمان، بعد استدراجهم إلى أرض يجهلونها، ووسط مناخ لم يألفوه، ولم يستعدوا له. 

ومثّلت حرب فيتنام تجربة مهمة لهذا النوع من الحروب، حيث تم توريط الولايات المتحدة فى مستنقع فيتنام الشمالية، وراحت موسكو وبكين تمدّان المقاومة بالسلاح والمؤونة لإنهاك الجيش الأمريكى. وفى اتجاه معاكس فعلت الولايات المتحدة الأمر نفسه بالقوات السوفيتية التى غزت أفغانستان عام 1979، حتى أُرهقت تماماً، وهُزمت فى النهاية.

وللجيش الإسرائيلى تجربة سابقة خاضتها ضده مصر، استمرت من يونيو 1967 حتى أغسطس 1970، وكان مسرحها ممتد من عمق الدولة المصرية حتى أعماق سيناء، بل يبلغ ما هو أبعد، حين ضربت مصر حفاراً إسرائيلياً كان راسياً فى ميناء أبيدجان عاصمة السنغال، وكان سيُستخدم فى الحفر للبحث عن النفط فى خليج السويس. 

هذه الحرب أرهقت الجيش الإسرائيلى كثيراً، وحرمته من تعزيز وجوده فى سيناء، ومهّدت لمبادرة روجرز، التى تمكن الجيش المصرى بمقتضاها من بناء حائط الصواريخ، الذى أعانه فى حرب أكتوبر عام 1973. 

لكن هذه التجربة، على أهميتها، كانت لجيش نظامى، حتى لو لجأ إلى أسلوب «حرب العصابات».

ربما تكون تجربة الإسرائيليين فى لبنان بين 1982 و2000، هى الأقرب إلى تجربة غزة التى بدأت منذ توغّل الجيش الإسرائيلى فى القطاع فى نوفمبر 2023، وإقامة مراكز ثابتة لقواته فى بعض المناطق، لكنه لم ينجح فى غزة، مثلما تمكن فى لبنان من تكوين ميليشيات محلية عميلة، كانت تخوض بعض المعارك والاشتباكات بديلاً له، أو تُخفّف وطأة ضربات المقاومة نيابة عنه.

(نكمل غداً)