التضامن العربي المؤذي والشرير كما تراه أمريكا (3)
فى الأسبوع الأول من شهر يونيو عام 1973، كلف «مارتن لو كويسن»، نائب الوكيل الدائم للخارجية البريطانية لشئون الشرق الأوسط وأفريقيا، سفارة بلاده فى «القاهرة» بإعداد تقرير حول ما تردد عن حصول الرئيس المصرى أنور السادات على تعهد من العاهل السعودى الملك فيصل بالضغط على الغرب الداعم لإسرائيل.
واستبعدت السفارة البريطانية فى القاهرة أن تدفع مصر فى اتجاه استخدام سلاح النفط، وأكدت أنه من غير المرجح أن يشجع المصريون أى إجراءات بخصوص تزويد الولايات المتحدة الأمريكية بالبترول، ما لم يتم التنسيق بين كل المنتجين، ووصفت السفارة الموقف المصرى بأنه أشبه بالتهديد، وقالت فى تقريرها: «إن حسابات المصريين تقوم على أن التهديد بالفعل يخدم مصالح العرب أكثر من الفعل نفسه».
وعلى الرغم من تلقى البريطانيين تقريراً يفيد بأن وزير الحربية المصرى (أحمد إسماعيل) طلب، خلال زيارته لدول الخليج فى شهر أبريل من العام نفسه، استخدام البترول كسلاح حال اندلاع الحرب مع إسرائيل، إلا أن «الخارجية البريطانية» خَلُصَت، بناء على تقرير سفارتها فى «القاهرة»، إلى أن المصريين يطلقون «تهديدات جوفاء».
مع بداية أكتوبر 1973 تعمدت مصر الترويج لفكرة عدم استخدام سلاح البترول، وأنها لن تشارك فى مثل هذا الحظر إن حدث. وفى برقية سرية إلى «لندن»، تحت عنوان «النفط سلاحاً»، أشار «فيليب آدمز»، السفير البريطانى فى القاهرة، إلى تأكيدات حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومى المصرى، خلال مقابلته له يوم 1 أكتوبر، بأنه ليس هناك مسئول مصرى يمكن أن يكون طرفاً فى وقف ضخ البترول، واستبعاده استخدام العرب له كسلاح ضد الغرب.
وأشار مستشار الأمن القومى المصرى إلى أن مثل هذا الحظر سيكون ضاراً بمصالح العرب أنفسهم، ويؤدى إلى إثارة رد فعل خاطئ تماماً من جانب الولايات المتحدة.
وأشار «إسماعيل» إلى أهمية العامل الاقتصادى فى النزاع العربى الإسرائيلى، وقال إن مصر تتوقع أن تدرك إدارة الرئيس الأمريكى «نيكسون» أن مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية والتجارية والمالية هى مع العرب وليس إسرائيل.
واندلعت الحرب فى 6 أكتوبر، وبعدها بأسبوع أعلنت الولايات المتحدة، فى 13 أكتوبر، عن تنظيم الجسر الجوى لدعم إسرائيل، وعلى الفور بدأت التحضيرات العربية لاستخدام ورقة البترول.
وفى 16 أكتوبر اجتمع فى الكويت وزراء بترول دول الخليج، وأقروا زيادة حادة فى السعر وصلت إلى 70%، وفى اليوم التالى مباشرة قرروا حظر التصدير إلى الولايات المتحدة، وكذلك خفض الإنتاج بنسبة 5%.
وبعد توقف الحرب فى 26 أكتوبر، أبقت الدول العربية على قرار الحظر، وفى 4 نوفمبر قرر وزراء البترول العرب الأعضاء فى «أوبك» خفض الإنتاج بنسبة 25%، وتوسيع دائرة الحظر ليشمل هولندا، والدنمارك، وجنوب أفريقيا، والبرتغال ودولاً أخرى.
وفى مؤتمر القمة العربية السادس فى الجزائر، يوم 26 نوفمبر، قرر القادة الاستمرار فى استخدام البترول كسلاح، وربط تصديره لأى دولة بمدى التزامها بتأييد قضية العرب العادلة.
وفى 8 ديسمبر قرر وزراء البترول العرب، خلال اجتماعهم فى الكويت، ربط إلغاء الحظر بوضع جدول زمنى، توقعه «تل أبيب» وتضمنه «واشنطن» للانسحاب من الأراضى العربية المحتلة.
وفى 17 مارس أعلن الوزراء العرب نهاية الحظر، بعد أسابيع من تقدم المحادثات، وفض الاشتباك بين مصر وإسرائيل.
لم يكن تعبير «سلاح البترول» فى حرب أكتوبر من قبيل المبالغة، قياساً بتأثيره الكبير فى واقع الاقتصاد العالمى، وعلى مسار العلاقات الدولية، إلى حد إرغام دولتين كبريطانيا وفرنسا على تبنى موقف الحياد، ورفضهما استخدام مطاراتهما لنقل العتاد العسكرى إلى إسرائيل، وقيام وزراء خارجية السوق الأوروبية المشتركة بإصدار بيان طالبوا فيه إسرائيل بالانسحاب من الأراضى العربية المحتلة.
وبالنسبة للولايات المتحدة، تسبب هذا السلاح فى إلحاق خسائر اقتصادية كارثية، وخسرت سوق الأوراق المالية الأمريكية ما يقدر بنحو 97 مليار دولار، وألغت شركات الطيران هناك رحلاتها لمواجهة الأزمة، وتكدست طوابير السيارات أمام محطات الوقود.
وبسبب «صدمة النفط» قفز سعر البرميل من 2.32 دولار إلى 11 دولاراً، وانتقلت سيادة الإنتاج والتصدير إلى الدول العربية، وسجل التاريخ فى صفحاته أحد أهم مواقف التضامن العربى فى مواجهة قوى الاستعمار العالمية التى تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية، التى لن تتراجع عن دعمها الفاضح لإسرائيل إلا بوقفة عربية مماثلة.. وإنا لمنتظرون.