.. وبدأت ملامح الحرب الشاملة المؤجلة
بعد اقتراب دخول الحرب على غزة من عامها الأول، تتصاعد حدة التوتر على الجبهة اللبنانية المساندة لغزة، وربما تتدحرج كرة الثلج لتصل إلى الحرب الشاملة، بدأتها إسرائيل بثلاث ضربات استباقية موجعة لحزب الله، قبل نحو أسبوع بتفجير أجهزة البيجر المتداول استخدامها بين عناصر حزب الله والمواطنين وبعدها أجهزة الاتصال اللاسلكى التى أسقطت آلاف الجرحى وعشرات الشهداء خلال ثوانٍ معدودة، ثم أعقبها اغتيال القائد فى وحدة الرضوان «إبراهيم عقيل» وبعض المسئولين الآخرين فى الحزب أثناء لقاء جمع بينهم فى الضاحية الجنوبية فى بيروت بعد يوم واحد من حرب التفجيرات. هذا التصعيد كان مقدمة لعملية هجوم استباقية واسعة تحضر لها إسرائيل منذ مدة، بهدف إعادة سكان الشمال إلى بيوتهم والضغط على حزب الله لإقصائه عن مساندة جبهة غزة، لكن الأحداث تتلاحق بسرعة كبيرة وربما تنفلت ضوابطها فى أى لحظة، ويصبح من الصعب احتواؤها أو السيطرة عليها.
فى بداية الحرب على غزة وضع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو جملة من الأهداف كان أهمها القضاء على حركة حماس وجناحها العسكرى كتائب القسام، وإعادة الأسرى، وتغيير النظام السياسى فى قطاع غزة وإقامة منطقة عازلة على الحدود الجنوبية، لكن حتى الآن وبعد مرور عام على الحرب الضروس، لم يتحقق أى من الأهداف المعلنة، وفى تصعيده مع حزب الله حدد هدفين أساسيين للهجوم وهو إعادة سكان الشمال بعد عام على نزوحهم من بيوتهم وتكبيد الحكومة خسائر هائلة بسبب ذلك، والعمل على فصل جبهة الشمال عن الجنوب (أى تفكيك الترابط بين حزب الله وحركة حماس فى الحرب الدائرة على قطاع غزة)، فضلاً عن محاولة إبعاد حزب الله وقواعده العسكرية عن الحدود مع إسرائيل إلى ما بعد نهر الليطانى، لكن حزب الله رد على غطرسة نتنياهو بإصراره على منع تحقيق هدفه بعدم عودة النازحين من مستوطنى الشمال إلى بيوتهم.
ومنذ أكتوبر من العام الماضى لم تتوقف المناوشات بين حزب الله وإسرائيل فى الشمال خاصة أصبع الجليل فى ضربات متماثلة يقوم بها الطرفان بشكل متزامن، لكنها لم تتطور إلى تصعيد مباشر إلا بعد الهجوم الإلكترونى واغتيال القائد عقيل، ورغم أن إسرائيل قامت باغتيال رئيس الأركان «فؤاد شكر» أحد أهم قيادات حزب الله قبل نحو شهر، آثر الحزب التمهل وضبط النفس والثأر لاغتياله بعملية عسكرية محدودة، دون الانجرار إلى حرب مفتوحة شاملة، لكن إسرائيل استهانت بها ووصفتها بالضعيفة.
من الواضح أن «نتنياهو» فى تصعيده العسكرى الجديد يستنسخ غزة فى لبنان، ومثلما حاول خنق المقاومة فى غزة باستهداف المدنيين فى عملية إبادة جماعية واضحة يكرر السلوك نفسه فى لبنان، فقد شنت طائراته غارات عشوائية لم تميز على الإطلاق بين أهداف مدنية أو عسكرية، ملتزماً بالادعاءات نفسها بأنه قصف 1300 هدف لحزب الله، فيما يؤكد شهود العيان أن الغارات تلك كانت عشوائية، والهدف منها تحميل حزب الله مسئولية سقوط تلك الأعداد الضخمة من المدنيين الأبرياء بهدف تأليب الداخل اللبنانى عليه وعزله عن بيئته الداعمة وتنشيط المعارضة التى تبديها الطوائف الأخرى ضد انخراط الحزب فى معركة غزة.
يسود الاعتقاد بأن حزب الله ما زال يتريث فى سلوكه الميدانى ويتمهل فى استهداف المدنيين الإسرائيليين، مع أنه وسّع دائرة الاستهداف إلى ما يقارب 50 كيلومتراً فى عمق الأراضى الإسرائيلية وصولاً إلى تخوم حيفا، ولعله بهذا السلوك يحاول تجنب إظهار دوره كعنصر مفجر لاشتعال حرب واسعة، مقابل تلك الغارات الجنونية التى يعرف الجميع أنه لا مبرر لها، وتقول مصادر قريبة من حزب الله إن هذا التريث قد ينقلب فى أية لحظة إلى هجوم واسع ومدمر يقوم به ضد مدن إسرائيلية رئيسية مثل تل أبيب، فهو يمتلك من القدرات الهجومية الكثير ويحتفظ بخط إمداد لا يتوقف من الترسانة العسكرية.
ربما يشكل التصعيد الإسرائيلى ضد حزب الله مبادرة نوعية تهدف إلى ضرب قدرات حزب الله وعزل غزة وإعادة سكان شمال إسرائيل إلى بيوهم، لكن ما حصل فى غزة قد يتكرر أيضاً فى لبنان ويشير مراقبون عسكريون إسرائيليون إلى أن حماس بقدراتها المحدودة وبعد عام من القتال ما زالت تقاتل على كل المحاور والجبهات وما زالت تحتفظ بقدراتها السلطوية، وما زال الجيش الإسرائيلى عاجزاً عن استرداد رهائنه، ومن المرجح جداً أن يتكرر السيناريو نفسه فى لبنان، وتجد الحكومة الإسرائيلية نفسها عاجزة عن تحقيق أى من تلك الأهداف التى شكلت عنواناً للتصعيد مع حزب الله، عنها سيكون نتنياهو أمام لحظة الحقيقة ومفترق طرق فإما أن يتراجع خطوة إلى الوراء، وذلك بالوصول إلى اتفاق مع حماس ما يعنى تهدئة فورية فى الشمال، أو أنه سيضطر إلى الهروب إلى الأمام بشن عملية برية واسعة تهدف إلى دفع قوات حزب الله شمال نهر الليطانى الذى يبعد نحو 40 كيلومتراً عن الحدود، وهنا سيتبين المصير النهائى لمعادلات الردع فى المنطقة التى رسمت سلوك أطرافها الرئيسية منذ يوليو عام 2006 وحتى أكتوبر 2023.