رحلة مع «عبدالبديع» سائق قطار: ننتظر السجن أو الموت

كتب: عبدالفتاح فرج

رحلة مع «عبدالبديع» سائق قطار: ننتظر السجن أو الموت

رحلة مع «عبدالبديع» سائق قطار: ننتظر السجن أو الموت

يستيقظ من نومه فى جوف الليل والناس نيام، ويخرج من منزله فى هدوء وبيده كيس بلاستيكى به سخان كهربائى وكوب شاى فارغ، يرفع يديه إلى السماء ويدعو ربه أن يعيده إلى أولاده الثلاثة سالما غانما وأن يبعد عنه شر ما لا يعلم. لم تمنعه ظلمة الليل من السير بخطوات حثيثة نحو محطة قطار الزقازيق، يجلس قليلا فى استراحة سائقى القطارات ليتسامر مع أقرانه ويتناول الإفطار معهم، فكلٌّ فى انتظار موعد انطلاق رحلته.يتوجه إلى ورشة المحطة ليفحص «جرار» قطار رقم 944 الذى تبدأ رحلته من الزقازيق إلى القاهرة وفق جدول هذا اليوم، يتمم عليه بنفسه مع مساعده ورفيق رحلته، ثم يطمئن على حالة عربات القطار. وفى تمام السادسة يدق جرس المحطة بالرصيف معلنا انطلاق الرحلة. وهنا يدخل عبدالبديع السيد، سائق الرحلة، فى حالة تركيز شديدة متابعا إشارات السيمافورات. يقوم صاحبنا بقيادة القطار فى رحلتين يوميا. أماكنها غير ثابتة تتغير وفق الجداول حسب منطقة تشغيل شرق الدلتا.[Image_2] «الوطن» صاحبت عبدالبديع سائق القطار فى رحلته الثانية التى انطلقت من القاهرة إلى الزقازيق، وظلت معه بكابينة القيادة فى الجرار «الأمريكى» منذ انطلاق الرحلة حتى وصوله بسلام، وذلك للوقوف على أحواله ومعرفة المصاعب التى تواجهه هو وزملاءه، كذلك للتعرف على الأسباب التى تجعلهم يعلقون العمل ويدخلون فى إضرابات واعتصامات. جلس عبدالبديع منتظرا على رصيف 8 بمحطة مصر بالقاهرة مع الركاب، ينتظر وصول القطار رقم 185، مميز سياحى، الذى سيقوم بقيادته إلى الزقازيق، وعندما وصل القطار، بعد تأخير دام نحو ساعة، تسلم القطار من السائق الذى استقله من سوهاج، حيث بداية الرحلة التى استمرت 12 ساعة لم يفارق فيها الرجل جرار القطار، وفيه أكل وشرب ولم تغفل له عين. خرج من سوهاج قبل منتصف الليل ووصل إلى القاهرة قبل الساعة العاشرة صباحا فى رحلة هى الأصعب والأطول. هذا إن لم تُغلق أمامه السكة الحديد من قبَل محتجين أو متظاهرين، وحينذاك سيلبث الرجل بالقطار يوما أو يومين، فهو مسئول أمام هيئة السكة الحديد عنه، لا يفارقه إذا نزل منه الناس، وسيجد نفسه والمساعد وحيدين وسط بلاد غريبة. وما أن وصل القطار إلى القاهرة ركبت مع سائقه الجديد عبدالبديع فى كابينة القيادة ليكمل الرحلة إلى الزقازيق، ومنها إلى بورسعيد فى رحلة طويلة وشاقة.[Quote_1] عبدالبديع من سكان مدينة الزقازيق، يبلغ من العمر 45 عاما، قضى منها نحو 27 عاما فى مهنة قيادة القطارات، ولم يصل إلى درجة سائق قطار إلا بعد عمله كمساعد لمدة 17 سنة. إنه شريط ذكريات طويل أطول من شريط السكة الحديد، حافل بالمواقف والأحداث. كابينة الجرار ضيقة جدا، مرتفعة الحرارة، التكييف الموجود بها معطل. لا يوجد إلا كرسيان بالكابينة، الأول يجلس عليه السائق وهو الموجود ناحية اليسار، والثانى يجلس عليه المساعد. وفى منتصف الكابينة يوجد جهاز لاسلكى كبير يتواصل به السائق مع إدارات التشغيل بمناطق القاهرة والزقازيق، شاشة كمبيوتر موجودة بأعلى الحائط الأمامى للكابينة توضح مشكلات الجرار، مكتوب أسفلها «السرعة لا تزيد عن 120 كيلومتر فى الساعة». صوت الجرار مرتفع جدا، لكن يقل مع قفل باب الكابينة، يمسك السائق بعصى السرعة الموجودة على يمينه، ويضع رجله على «دواسة» لا يسير القطار دون وضع رجله عليها. رائحة كريهة تصدر من خارج القطار، قال السائق إنها ناتجة عن استخدام الفرامل. يترواح ثمن هذا الجرار ما بين 20 و24 مليون جنيه حسب قوله أيضاً. ويطلق السائقون على هذا النوع من الجرارات اسم «التوك توك»؛ نظراً لأن كابينته ضيقة جدا، عكس كابينة الجرار الألمانى «هنشى»، ولا يخفى السائق حبه لهذا الطراز»، لأنه «عشرة عمر، واخد عليه»، استخدامه أيضاً سهل، متسع من الداخل، إنما الجرار الذى يستقله الآن استخدامه معقد وصعب، لم يتدرب عليه سوى يومين. واستعجب الرجل عندما سألته: هل تدربت عليه بشكل كافٍ؟ فقال: «بعد الشر، دربونا عليه يومين، وكل سنة وانت طيب»، أما ثالث أنواع الجرارات المستخدمة فى مصر فهو الجرار الكندى ذو الكابينة الواحدة. يعترف السائق بأن العمر الافتراضى لـ80% من الجرارات انتهى، وأنها تعمل «بالبركة»، وأن الأجانب يتعجبون من أنها ما زالت تعمل فى مصر. مساعد السائق، اسمه خالد، بدت عليه علامات التعب والإجهاد، يسأله عبدالبديع: «إيه يا خالد، الإشارة فاتحة؟». يرد عليه: «خضرا يا ريس توكل على الله». هذه الجملة أكثر شىء سمعته منهما طوال الرحلة؛ حيث يقابلها سيمافور كل 800 متر، ولا يستطيع السير إلا إذا كانت الإشارة خضراء، وإذا كانت حمراء فلا يمكنه السير. ويجب عليه التوقف. وبسبب ذلك توقف القطار لمدة ربع ساعة قبل محطة «قلما» بعد مدينة قليوب عندما وجد الإشارة حمراء، وهنا حدثه أحد الموظفين بإدارة تشغيل السكك الحديدية بالقاهرة وأبلغه أن قطارا معطلا أمامه وعليه الانتظار. بعد دقائق تململ أحد الركاب من التأخير ونزل من القطار وجاء إلى السائق وسأله عن سبب التأخير فأجابه بلطف أن قطارا معطلا فى الطريق، وطمأنه بأننا لن نتأخر طويلا.[Quote_2] انتهزت هذه الفرصة وسألت السائق عن متاعب هذه المهنة فقال: أخرج من بيتى لا أعلم هل سأعود إلى أولادى أم لا، قد تصادفنى حادثة على مزلقانات الموت أو أصطدم بسيارة نقل أو قطار، وإذا حدث ذلك فأنا على يقين من أننى سأكون من الأموات. وإن نجوت فلن يحاسب أحد إلا أنا سائق القطار، رغم أنه لا ذنب لى فى الحادث لأن السيمافور أعطانى إشارة خضراء. إذا نجا السائق من الموت فلن ينجو من التحقيقات والحبس حتى يتحققوا من عدم مسئوليته، مثلما حدث فى حادث دهشور وقليوب الأخير؛ حيث تم حبس زميلنا عدة أيام وبعدها أفرجوا عنه. وأضاف: نتعرض أحيانا إلى قطع السكك الحديدية، وحينها نظل مرابطين بالقطار لا نتركه حتى نسلمه لأننا مسئولون عنه مسئولية كاملة. ولا يُقدر البعض أن السائق الذى قُطع الطريق أمامه يعمل منذ 24 ساعة ويحتاج إلى راحة وقسط من النوم ولا يبالى الناس بحالته، وقد يظل بالقطار يومين حتى تحل مشكلة المحتجين. ليس هذا فحسب، بل إذا توقف القطار لأسباب خارجة عن إرادتنا، ولو قليلا، يقوم الركاب بالنزول من العربات ويتوجهون نحونا ويسبوننا بأقبح الشتائم، لا يعلمون أننا نعمل وفق منظومة مركزية، وأن أى نسبة خطأ تؤدى إلى الموت. أصعب ما نعانيه هو المزلقانات، لا يغلقها العاملون أحيانا أمام حركة السيارات والمشاة وقت مرور القطار بالمكان. ينطلق القطار مرة أخرى ولا يتوقف إلا فى محطة «بنها»، وقبل دخول المحطة يشير السائق بمرارة بأصبعه نحو السيارات والمارة الذين لم يتوقفوا عن السير رغم اقتراب القطار منهم، ويقول فى حدة: «بص، دى بقى الحاجة اللى بتخللى الواحد أعصابه تسيب. هذه نفس مثلى تماما، من الممكن أن تموت، وسأكون أنا المسئول عنها، حرام عليهم عمال المزلقانات». أثناء توقفه فى محطة بنها شكى عبدالبديع من عدم توافر قطع غيار للجرارات بشكل كافٍ وهو ما يعرضها للعطل المفاجئ. فمثلا يخرج الجرار من الورشة وقوة الفرملة به 60% فقط. «لو نفذنا تعليمات السكة الحديد مش هنمشى»،[Quote_3] ويضيف: لا أحب الحديث عن الماديات رغم أن أكثر شىء يرهق الإنسان حاليا «قلة الفلوس»، عملنا بالانتاج، المسافة من القاهرة للزقازيق 80 كيلو يتم محاسبتى على 10 قروش لكل كيلومتر. لو أصيب أحدنا أو مات أثناء العمل «لا بياخد أبيض ولا أسود»، كل ما يستطيع الحصول عليه 2000 جنيه لا أكثر عبارة عن مصاريف جنازة. أنا الآن مرتبى 1400 جنيه لكن عند خروجى إلى المعاش سوف إحصل على 500 أو 600 جنيه. وعندما قمنا بعمل إضرابات فى الفترة الأخيرة حصلنا على علاوة 15%، بينما حصل موظفو الهيئة الذين يعملون بالمكاتب الإدارية المكيفة على 20%. وفى شهر رمضان نحصل من الهيئة على 100 جنيه بدل وجبات عن شهر رمضان. قيادة المترو أسهل بكثير من قيادة القطارات ومع ذلك يحصل سائقو المترو على أجور أكثر منا. ثم يردف: معاناة سائقى القطارات تكون أشد فى فصل الشتاء، خصوصا أولئك الذين يسكنون الأرياف، حيث تنقطع المواصلات ليلا، وفى وقت مبكر جدا. بعض زملائى يجدون صعوبة كبيرة فى المجىء إلى الزقازيق صباحا فى ظل انقطاع المواصلات مع البرد الشديد. قبل وصول السائق إلى محطة قطار «منيا القمح» تحدث إليه أحد العاملين بإدارة تشغيل الزقازيق وقال له: «مين سائق رقم 944؟»، رد عليه: «عبدالبديع يا فندم». سأله مرة أخرى: «عارف مين هيستلم منك؟»، قال: «سامى كمال إن شاء الله». واختتم الاتصال بقوله: «توصل بالسلامة إن شاء الله». عبدالبديع قال أخيراً: أكره العمل بخط «الشرق» من محطة الليمون إلى المنصورة مرورا بالزقازيق وبلبيس لأن الناس تركب فوق عربات القطار والجرار، وهذا نسميه «تسطيح»، وقد تجدهم أمامك ومن فوقك. وصل سائق الرحلة أخيراً إلى «الزقازيق»، وما أن وصل إلى المحطة تسلم منه القطار سائق آخر ليكمل رحلة بدأت قبل منتصف الليل ولا تنتهى قبل الظهر قادمة من الجنوب حيث سوهاج، ومتوجهة إلى الشمال حيث بورسعيد. وعلى عبدالبديع الآن أن يستريح وينام خلال النهار ليستكمل عمله غدا فى جوف الليل. أخبار متعلقة: وعاد نزيف القضبان «الوطن» تكشف: القطار السريع حصل على «إذن شغل» بأن الطريق خالٍ مصابو قطارى الفيوم يروون لـ«الوطن» لحظات الحادث سائقو القطارات ينتقدون هيئة الطرق ويكشفون تعطل أجهزة ATC والسيمافورات رفع آثار كارثة الفيوم والاستعانة بونش «100 طن» لفك «تعشيقة» الجرارين الملتصقين تماماً على القضبان «شريهان»عروس القطار.. جهزت الفستان ولوازم الكعك ماتت قبل الزفاف بأيام