«الذي يتخبطه الشيطان»

لا تجد وصفاً أوقع للإنسان حين يقع فى حالة «تخبّط»، ولا شرحاً أوفى للأسباب التى تؤدى إلى سقوطه فى «فخ التخبط»، مثل ذلك الوصف والشرح الذى تقدّمه الآية الكريمة التى تقول: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ».

وهى تصف الحالة التى تتلبس الإنسان حين يترخص فى أكل الربا ويتقبّل فكرة التربّح منه، فهو يصبح مثل الإنسان المصروع الذى مسّه الشيطان، يعيش حالة ترنّح لا تقوى قدماه على حمله، يسقط على الأرض، يضرب يميناً ويساراً، يصعد جسده ويهبط، هكذا بلا راحة.

والآية كما تعلم تشرح الحالة التى سيكون عليها أكلة الربا حين يخرجون من قبورهم للقاء الخالق العظيم يوم القيامة، لكنها تصلح كأساس لفهم طبيعة وأسباب حالة التخبّط التى يمكن أن تضرب الأفراد أو المجتمعات، خلال فترات معينة من أعمارهم.

وظنى أن «المس الشيطانى» الذى تتحدث عنه الآية الكريمة أبعد دلالة -من المعنى المتداول شعبياً لكلمة ممسوس- إذ يشير إلى هذا السبب أو ذاك من الأسباب التى تؤدى إلى سقوط الإنسان فى «فخ التخبّط».

فالمسألة مجازية وتمثل محاولة لتقريب المعنى إلى ذهن القارئ أو السامع، فالتخبّط حالة تصيب الإنسان حين يفقد رشده أو هداه، أو بعبارة أخرى حين يفقد البوصلة التى تنظم حركته فى الحياة، ليصبح أداؤه «خبط عشواء»، يضرب يميناً ويساراً، وأعلى وأسفل، يحاول القفز فى السماء، ثم يرتمى على الأرض، وفى كل الأحوال لا يدرى سبباً لما يفعل، فالحركة التى يأتيها أو اتجاهها ليس لها أى معنى، سوى محاولة يائسة ومُبهمة للخروج من حالة المس (سبب التخبّط) التى يشعر بها.

المفروض أن الإنسان حين يدرك سبب علته يُبادر إلى التعامل معه، مما يؤدى إلى تحييد السبب، وبالتالى التخلص من الأعراض. لكن المسألة ليست سهلة أو بسيطة.

فالإنسان فى هذه الحالة لا يضغط على زر يوقف به السبب، بل يحاول بسذاجة أن يجد لنفسه المبرّرات، فى الحالة التى تتحدّث عنها الآية الكريمة -حالة الربا- تجد أن المرابى يسارع إلى القول بأن البيع مثل الربا.. يقول تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا»، إنها محاولة للمراوغة تستهدف تبرير التمسّك بأسباب التخبُّط.

فالمرابى يرى أن الربح الذى يتحقّق من البيع يماثل الربح الذى يتحقّق من الربا.. فما الفارق؟ هذه فلوس وتلك فلوس، ويرد الخالق العظيم على هذه المحاولة للمراوغة بقوله تعالى: «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا». فالبيع حلال والربا حرام، وفارق كبير بين الحلال والحرام.

فى هذا السياق نستطيع أن نفهم التخبّط: فهو أولاً حالة من حالات افتقاد البوصلة، وثانياً حالة يحركها سبب واضح يعرفه المتخبّط ويدركه من حوله، وهو ثالثاً حالة مراوغة يحاول فيها المتخبّط التستر على السبب الذى أدى به إلى التخبّط، فى محاولة للتعامى عما يراه فى نفسه وما يبصره المحيطون به.