«طه حسين».. لماذا؟
كان لدى الدكتور طه حسين -رحمه الله- مبرراته فى تأييد ثورة يوليو 1952 خلال سنواتها الأولى، بسبب انحيازها -مثله- إلى الفقراء، الذين عبر عنهم العميد فى رواياته: «المعذبون في الأرض» و«ما وراء النهر».
وقد سمعته فى لقاء تليفزيوني يعلّق على إحدى قصص مجموعة «المعذبون في الأرض» التى تحولت إلى تمثيلية تليفزيونية، ويشير إلى دور الثورة فى تعميم مجانية التعليم الجامعي، لتُتم الرحلة التى خاضها العميد دفاعاً عن مجانية التعليم، ولم ينس أن يلمّح وهو يتناول هذا الموضوع إلى موقف نظام الحكم الملكي من التعليم، وكيف أن البيت العلوي كان يرفض إتاحته للفقراء بالمجان.
تبنت الثورة توجهاً اجتماعياً مدافعاً عن حقوق الفلاحين والعمال والطبقات الفقيرة بالمدن، واستحدثت من القوانين التى تؤكد على هذه الحقوق الكثير.
هذا التوجه كان يتناغم مع الفكر الاجتماعي لطه حسين، الأمر الذى جعله يدافع عن الضباط ضد خصومهم، بما في ذلك الوفديون الذين كان يصطف بين صفوفهم بالأمس.
يقول مصطفى عبدالغنى: «كان طه حسين كثير الالتقاء بزعماء الثورة، وبخاصة جمال عبدالناصر، كما كان ينقل إلى رجال الوفد حديثاً طويلاً ظل يردد مضمونه دون أن يغيره قط، وهو أن رجال الثورة الجدد يقدرون جهاد الوفد وجهاد النحاس باشا، ولكن يجب أن نلاحظ أنهم شبان ويجب أن نتمشى قليلاً مع أهدافهم».
ظل طه حسين مؤيداً لثورة يوليو دون مواربة، وبارك العديد من الخطوات التى اتخذتها، بما فى ذلك الخطوات التى جارت على الديمقراطية وحرية الرأى، وأخذ يقدح فى العهد الملكى البائد ويوصمه بكل نقيصة، رغم أنه كان يمدح الملك فاروق بالأمس.
كما شارك فى المعارك التى خاضها مجلس قيادة الثورة، ومن أبرزها معركة تجديد قانون الأزهر، والمعركة ضد جماعة الإخوان عام 1954.
ونال مقابل ذلك وساماً من الدولة وترأس تحرير جريدة الجمهورية (الصحيفة الناطقة باسم الضباط).
نخلص مما سبق إلى أن طه حسين اعتمد أسلوب المهادنة والملاينة مع ضباط ثورة يوليو، مدفوعاً فى ذلك بطبيعته المزاجية المتقلبة، بالإضافة إلى احتفائه ببعض الإجراءات التى اتخذتها الثورة لصالح الطبقات الاجتماعية المهمشة، وتناغمت مع ما كان يطرحه العميد من أفكار اجتماعية فى كتاباته ورواياته، وقد يكون الخوف أيضاً دافعاً لتبنى خط المهادنة والملاينة مع الثورة.
أياً كانت الأسباب الفكرية أو المصالحية التى دفعت العميد إلى مهادنة وملاينة ضباط الثورة، فإن العلاقة ما بين الطرفين بدأت تفتر بمرور الوقت.
وكان السبب فى ذلك رسوخ أقدام السلطة الجديدة وعدم حاجتها إلى غيرها، بالإضافة إلى جريان العمر وارتباك الأوضاع الصحية للعميد بدءاً من العام 1960 كما تشير زوجته «سوزان طه حسين» فى كتابها «معك»، إلى حد أن أصبح يواجه صعوبات فى الوقوف والسير.
ألغت جريدة الجمهورية تعاقدها مع طه حسين عام 1962 بصورة أغضبت الرجل.
لحظتها تأكد العميد أن الثورة بهذه الخطوة تعلن استغناءها عن خدماته، فأصبح يؤثر الجلوس في بيته، وبدا عازفاً عن الكتابة السياسية، وحتى الأدبية.
وظل الرمز الأكبر للنخبة الثقافية المصرية على تلك الحال حتى قابل وجه ربه أواخر أكتوبر عام 1973، بعد أيام من انتصار أكتوبر المجيد، ليحتل موقعه فى ذاكرة العلاقة بين المثقف والسلطة كواحد من أبرز النماذج على «المثقف المندمج».