الضفة الغربية.. في مرمى النيران

جيهان فوزى

جيهان فوزى

كاتب صحفي

للمرة الأولى منذ الاحتلال الإسرائيلى لأراضى الضفة الغربية عام 1967، تتخذ المقاومة الفلسطينية شكلاً مسلحاً وعنيفاً، ينذر بتحولات تدريجية نحو مواجهات أكثر خطورة وأكثر دموية من أى مواجهات سابقة، حتى إنه لا يمكن مقارنتها بالمواجهات التى جرت خلال الانتفاضة الثانية التى شهدت عمليات إطلاق نار متفرقة وغير مجدية فى غالبية مدن الضفة.

وتقدم جنين وطولكرم نموذجاً جديداً للمواجهة من خلال استنساخ عمليات المقاومة فى غزة، وعلى وجه التحديد نصب الكمائن وزرع العبوات الناسفة، وتعترف قوات الاحتلال الإسرائيلى بأنها قد تكبدت خسائر جسيمة فى هاتين المدينتين خلال الأيام الخمسة الماضية، إذ سقط بين صفوفها قائد فرقة القناصة وأحد الجنود قتيلين، فيما أصيب 17 جندياً بانفجارات مركبة بعبوات تم زرعها وبتخطيط عسكرى محكم، أما فى مدن الضفة الغربية الأخرى، فإن حدة المواجهات تبدو منخفضة لأنها تتركز بالأساس على قنص الجنود والمستوطنين، وتهديد حركة التنقل ما بين المستوطنات فى الضفة الغربية والمدن الإسرائيلية داخل الخط الأخضر، لكن لا ضمانة على الإطلاق ألا تتطور هذه العمليات إلى ما يشبه الاشتباكات فى جنين وطولكرم.

لقد مر على الاحتلال الإسرائيلى سبعة وخمسون عاماً، لم يتوان خلالها قادة الاحتلال فى اتخاذ أكثر الإجراءات قسوة ضد حركة المقاومة فى الضفة الغربية، بما يشمل الاعتقالات شبه اليومية والاغتيالات، ومنع التنقل، والحبس الاحتياطى، والمنع من السفر، وهدم المنازل، وتجريف الأراضى الزراعية، بل وتفننت قوات الاحتلال فى ابتكار عقوبات جماعية شديدة الوطأة، بهدف عزل المقاومة عن بيئتها الشعبية، وحصرها فى مجموعات محدودة الانتشار، غير أن النتيجة النهائية كانت معاكسة تماماً؛ فقد انفجر الغضب الشعبى الفلسطينى فى الانتفاضتين الأولى والثانية، وشكل صرخة مدوية سمعها العالم كله، مفادها أن الشعب الفلسطينى سوف لن يتعايش مع الاحتلال، وأنه مستعد للتضحية ودفع الثمن كاملاً، كى يستقل بوطنه ويقرر مصيره بنفسه، وكان من بين النتائج المباشرة لتلك الصرخة أن اجتمع العالم كله على القبول بمبدأ حل الدولتين من خلال اتفاقية سلام بين الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى، وقد أثمرت الجهود الأمريكية والأوروبية، من خلال محطات عدة من بينها مؤتمر مدريد للسلام، ثم المباحثات السرية فى أوسلو، ثم توقيع اتفاق غزة - أريحا أولاً، وصولاً إلى بناء السلطة الفلسطينية، والشروع فى المفاوضات متعددة الأطراف، للوصول إلى حل جميع القضايا المعلقة الأخرى مثل القدس واللاجئين والأمن والمياه والاستيطان. فقد شهد الصراع فى هذه المرحلة تقلبات حادة ما بين عمليات انتحارية من الجانب الفلسطينى، وملاحقات أمنية وتوسع استيطانى من الجانب الإسرائيلى، غير أن انكسار الانتفاضة الثانية، وتعاون السلطة الفلسطينية مع إسرائيل فى تفكيك خلايا المقاومة، وضم عناصرها إلى الأجهزة الأمنية الفلسطينية، أدى إلى تراجع حدة المواجهات والدخول فى هدنة طويلة نسبياً فى الضفة الغربية، مقابل تزايد وتصاعد وتيرة المقاومة فى غزة.

لكن الحدث الذى غيّر هذه المعادلة، كان تشكيل حكومة إسرائيلية نهاية عام 2022 برئاسة بنيامين نتنياهو وعضوية أكثر الأحزاب الصهيونية تطرفاً، ولم تتردد الحكومة الجديدة فى إعلان نواياها الحقيقية بتغيير التركيبة الديموغرافية، عن طريق تكثيف الاستيطان، وتهويد القدس، والتضييق على الفلسطينيين فى حياتهم اليومية وإمكانية وصولهم إلى الخدمات الضرورية، وحتى منعهم من الاستفادة من مياههم الجوفية، وعرقلة النمو الاقتصادى وربط الاقتصاد الفلسطينى برمته بالاقتصاد الإسرائيلى، ومنع الفلسطينيين من الاستفادة من المزايا المحدودة التى منحها اتفاق باريس الاقتصادى لهم، ما دفع شرائح واسعة، وتتزايد، من الشعب الفلسطينى لليأس من هذا المسار الذى كان من المفترض أن يفضى إلى نشوء دولة فلسطينية مستقلة، وفى الحقيقة فإن هذا اليأس قد شمل أيضاً دوائر صنع القرار فى أمريكا وأوروبا وباقى العواصم المؤثرة فى العالم.

لقد بات الجميع يدرك، وعلى قناعة، بأن حل الدولتين أصبح مستحيلاً مع حكومة يمينية متشددة فى إسرائيل، وأن لا قدرة لأى طرف، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، على إلزام إسرائيل أو إقناعها باستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، رغم المحاولات المبذولة لهذه الغاية طيلة السنوات العشر الماضية.

الآن وبعد التحول النوعى فى الصراع فى أعقاب هجوم السابع من أكتوبر، فإن هذا التحول انعكس على المشكلة التاريخية باتجاهين مختلفين، فمن ناحية أدركت القوى العظمى أنه لا سبيل لإنهاء هذا الصراع بتخديره، أو تجميده، ما يعنى أنه لا بد من حل يفضى إلى دولة فلسطينية مستقلة، ومن ناحية أخرى، فإن السخط الشعبى الفلسطينى على الاحتلال فى الضفة الغربية بدأ بالتحول إلى مقاومة مسلحة وعنيفة تنتقل بالتدريج من مدينة إلى أخرى، لتصبح كابوساً عسكرياً وأمنياً يؤرق الاحتلال، وينذر مستوطنيه بأن حياتهم فى الضفة لن تكون آمنة بعد اليوم.

لا نعرف كيف ستنتهى الحرب فى غزة، كما لا نعرف كيف ستنتهى المواجهات فى الضفة، لكننا نعرف على وجه اليقين أن إسرائيل لن تنعم بالسلام ولا الاستقرار طالما أن الشعب الفلسطينى لا ينعم بهما.