عبد الرحمن قناوي يكتب.. هنا عاش فيروس سي

كتب: عبد الرحمن قناوي

عبد الرحمن قناوي يكتب.. هنا عاش فيروس سي

عبد الرحمن قناوي يكتب.. هنا عاش فيروس سي

كان لقاؤنا الأول عابرًا مريرًا، شابٌ في مقتبل العشرينيات من عمره، ملامحه الحادة محفورةٌ في ذهني، بشرته السمراء تتلألأ بفعل بعض قطرات العرق في يوم شديد الحرارة من صيف عام 2012، يكسوها الغضب الممزوج بالحزن بينما يقلب أوراقاً لتحاليل طبية، وفجأة يسألنى: «والنبى يا أستاذ ممكن تطلّع لى تحليل الـPCR من الورق ده لو تعرف يعني»، ابتسمت بمرارة، فهذا الشاب يدور في نفس دائرة علاج فيروس «سي» التي أدور فيها منذ 6 أشهر، الفيروس اللعين الذي هاجم أمي وجعلها تفقد قوتها التى كنت أراها أسطورية.

حوارٌ قصيرٌ دار بيننا تعجبت فيه من علاجه من الفيروس في هذه السن الصغيرة، فأجاب في غم شديد: «لسه هبدأ الحقن لما أخلص الإجراءات.. كنت مسافر واكتشفته صدفة ومن ساعتها وأنا هموت من الحزن بعد ما كنت أدخل فى حيطة»، اكتفى بكلماته الحزينة واكتفيت بابتسامتى المريرة.

في تلك الآونة كانت مصر تسجل أعلى نسبة للإصابة بفيروس سي في العالم، ظلت تتصاعد حتى وصلت في عام 2015 إلى 7% بين السكان البالغين، ووفقا لتقديرات البنك الدولي، فإن أكثر من واحد من بين كل خمسة مصريين تتراوح أعمارهم بين 50 و 59 عاماً كان مصاباً بفيروس سي، ما أدى إلى انخفاض متوسط الإنتاجية بنسبة 7.5% بين المصابين، وانخفاض سنوي بنسبة 1.5% في إجمالي الناتج المحلي. 

مأساة مرضى فيروس سي لم تكن صحية فقط، فالفيروس اللعين كان يأبى إلا أن يُجهز على ضحاياه اجتماعيا وماليا، حيث كانوا أكثر تعرضا للفقر بنسبة خمسة أضعاف مقارنة بغيرهم بسبب اعتلال صحتهم ورحلة العلاج الطويلة بحقن الإنترفيررون حينها.

ذلك الشاب الحزين كان نموذجًا صارخًا لضحايا المرض، لم يستطع السفر للعمل في الخارج لتكوين نفسه وتأسيس مستقبله، بسبب فيروس كان يأكل جسد دولة بأكملها، ولم يتحرك أحد لإيقافه ومحاولة ردعه، كان العدو يسكننا ولا نستطيع مواجهته أو الوقوف بشكل حاسم أمامه.

طوال 6 أشهر بعد لقائنا الأول، كان رفيقي في الرحلة، نلتقي أسبوعيا أمام الدكتور «مايكل» المسؤول عنه وعن والدتي، أتفحص تحاليله وأطمئن على صحته وأثر ذلك الدواء المؤلم على جسده الذي كان قويا، ننهي أوراق تجديد العلاج معًا ونخوض تلك المشاوير من مديرية الصحة إلى مستشفى بني سويف العام، من الخزينة إلى المدير ثم العيادة فالصيدلية، حتى أنهت أمي مشوار علاجها، فودعني بعينين دامعتين: «هتوحشنا يا أستاذ.. وادعيلنا تحصل معجزة تخلصنا من اللي إحنا فيه».

بالفعل كنا في حاجة إلى معجزة للخلاص من تلك الكارثة وذلك العدو الذي يحتل أجسادنا ويأكل عقولنا، معجزةٌ بدأت بالفعل في عام 2018، حين قررت مصر أن تعبر من الأزمة وترسو على بر النجاة بإطلاق حرب شاملة ضد الفيروس كان عنوانها «100 مليون صحة»، مبادرةٌ رئاسيةٌ للقضاء على ذلك الفيروس وغيره من الأمراض المتوطنة.

بدأت الحرب الموسعة على الفيروس بخطة محكمة وتنفيذ شديد الدقة والحرفية، فالحملة استهدفت فحص جميع المصريين الذين تزيد أعمارهم على 18 عاما على ثلاثة مراحل، وتضمنت كل مرحلة من 7 إلى 11 محافظة، باستخدام نحو 6000 موقع فحص ثابت وأكثر من 8000 فريق فحص متنقل في جميع أنحاء الجمهورية. وللوصول إلى 57% من المصريين الذين يعيشون في المناطق الريفية، انتشرت 1079 سيارة طبية مجهزة للوصول إلى المناطق النائية والتي تعاني من نقص الخدمات، وتم إنشاء مركز اتصال محترف للمتابعة اللازمة والرد على استفسارات المواطنين.

النتيجة كانت مذهلة، والمعجزة تحققت بالفعل خلال 5 سنوات فقط، بلغ خلالها معدل الشفاء 98.5%، لتعلن منظمة الصحة العالمية في عام 2023، مصر دولةً خاليةً من فيروس سي، معجزةٌ تمناها صديقي الشاب قبلها بـ10 سنواتٍ كاملة وتحقق حلمه، لأراه في عالمٍ آخر يستخرج تأشيرة السفر الخاصة به دون معوقاتٍ صحية، ويكسب الكثير من الأموال التي يعود بها لقريته، يبني بيتًا فخمًا لأسرته ويخطب تلك الفتاة الجميلة التي طالما حلُم بها منذ أن كانا صغيرين يلعبان معًا على أطراف قريتهما، وينجبان أطفالًا لا يقلقان من هجوم عدوٍ خفيٍ على أجسادهم، فالمعجزة أصبحت واقعا.


مواضيع متعلقة