معركة الدولة الجديدة.. «كيف يصل الدعم لمستحقيه؟!»

مصطفى عمار

مصطفى عمار

كاتب صحفي

دائماً ما يصحب الحلول الاقتصادية الجذرية الكثير من الارتباك والمعاناة والتداعيات السلبية، ليس فقط على الفئات الأكثر احتياجاً، بل على كل مواطنى الدولة، فأزمة ارتفاع الأسعار الأخيرة كانت تلتهم أجور غالبية المواطنين، فباتت أوجاع المواطنين بكل مستوياتهم الاجتماعية مسموعة لدى الجميع. ومع نية الدولة لتنفيذ الإجراء الأصعب ووضع حلول جذرية لاقتصاد عانى من تشوهات كبرى، اتخذت الدولة عدداً من الإجراءات الحمائية الاستباقية لتخفيف أعباء الأزمة الاقتصادية العالمية عن المواطنين، ومحاولة احتواء أكبر قدر ممكن من التداعيات السلبية وآثارها على المواطنين، فجاء توجيه الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى فبراير الماضى، للحكومة بتنفيذ أكبر حزمة عاجلة للحماية الاجتماعية، بقيمة 180 مليار جنيه، وذلك اعتباراً من أول مارس الماضى.

لم تكن القرارات الأخيرة التى اتخذتها الحكومة المصرية هى الأولى من نوعها، أو حتى الأصعب على الإطلاق، فسبق أن اتخذت القيادة والحكومة المصرية عدة قرارات حاسمة قد يكون لها بعض التداعيات السلبية على المواطنين، وخاصة الفئات الأكثر احتياجاً، لكن دائماً ما كانت تراعى البُعد الإنسانى ورضا المواطنين أثناء المضى قدماً فى عملية التنمية الشاملة، لذا يلاحظ تطور المخصصات المالية لبرامج الدعم والحماية الاجتماعية خلال تولى الرئيس السيسى الحكم، حيث تم تخصيص 530 مليار جنيه فى العام المالى الحالى 2023/2024 لبرامج الدعم والحماية الاجتماعية، مقارنة بنحو 244٫5 مليار جنيه فى العام المالى 2014/2015، فقد وجهت القيادة السياسية بتخصيص 180 مليار جنيه لتنفيذ حزمة للحماية الاجتماعية اعتباًرا من مارس الماضى، تتضمن زيادة أجور العاملين بالدولة بحد أدنى يتراوح من 1000 إلى 1200 جنيه، ورفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 50٪، وزيادة المعاشات بنسبة 15٪، ورفع حد الإعفاء الضريبى بنسبة 33٪ لتخفيف الأعباء عن العاملين بمن فيهم القطاع الخاص، وبذلك يكون قد ارتفع حد الإعفاء الضريبى بنسبة 73٪ اعتباراً من يوليو 2023 حتى مارس 2024.

كما تضمنت هذه الحزمة أيضاً زيادات إضافية فى أجور الأطباء والتمريض والمعلمين وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات، ما يؤكد حرص الدولة على النهوض بقطاعىْ الصحة والتعليم، ووضعهما فى أولوية متقدمة، سواء من حيث الإنفاق الاستثمارى أو تحسين الأجور. وفى ضوء الانحياز للفئات الأوْلى بالرعاية، ارتفعت مخصصات معاش «الضمان الاجتماعى» وبرنامج «تكافل وكرامة» من 5 مليارات جنيه لنحو 1٫5 مليون أسرة فى 2013/2014 لتصل إلى 35٫5 مليار جنيه لنحو 5٫2 مليون أسرة فى 2023/2024 بزيادة 614٪، وارتفاع دعم السلع التموينية من 35٫5 مليار جنيه إلى 127٫7 مليار جنيه بنسبة نمو 160٪، وارتفعت مخصصات الأجور من 178٫6 مليار جنيه فى 2013/2014 إلى 470 مليار جنيه فى 2023/2024 بنسبة نمو 163٪.

فى سياق موازٍ، لم يكن الدعم الموجه للمواطنين فى صورة زيادة أجور فقط، لكنّ جزءًا منه تم توجيهه كدعم لتحسين جودة الخدمات التى تهم المواطن، والمواطن البسيط على وجه الخصوص، لذا ارتفعت مخصصات قطاع الصحة من 36٫4 مليار جنيه إلى 200 مليار جنيه خلال 9 سنوات بنسبة نمو 447٪، وزاد الإنفاق على قطاع التعليم من 84٫1 مليار جنيه عام 2014 إلى 230 مليار جنيه بزيادة 173٪، وتزايد الإنفاق على الاستثمارات الحكومية خلال 9 أعوام من 53 مليار جنيه إلى 587 مليار جنيه بنسبة نمو تتجاوز 1009٪، فخلال العقد الأخير نجحت مصر فى توفير حزمة كبيرة من تدابير الحماية الاجتماعية للأسر والأفراد الأوْلى بالرعاية انطلاقاً من تبنى وزارة التضامن الاجتماعى مبدأ «العدالة الاجتماعية» و«تكافؤ الفرص»، حيث بلغ إجمالى قيمة المخصصات المالية التى وفرتها الحكومة المصرية بالموازنة العامة للدولة فى العام المالى 2023/2024 لكافة برامج الحماية الاجتماعية نحو 550 مليار جنيه مصرى، ويبلغ نصيب المساعدات النقدية منها ما يقرب من 36 مليار جنيه مصرى.

كل هذه التحديات مجتمعة كانت أحد الدوافع أمام الدولة للاستمرار فى سياسة نقدية تشددية، ما خلق وفاقم أزمة وجود سعرين لصرف الجنيه، أحدهما يقارب ضعف السعر الرسمى، وباتت الأزمة منكشفة للجميع، وتلقى بظلالها على الحياة اليومية للجميع؛ فى صورة ارتفاع معدلات تضخم مستمر، وانفلات حركة الأسواق والتسعير والاحتكار، فى ظل عدم نجاح الحلول الأمنية فى السيطرة على الوضع. لذا كان أحد الحلول للجانب المالى - وقد تكون الأخيرة - هو تحرير سعر صرف الجنيه وفق آليات السوق للقضاء على السوق الموازية لتداول الدولار، ورفع معدلات الفائدة من 6٪ لتصل إلى 27.25% لتحجيم اضطرابات معدلات التضخم المتزامنة مع عمليات تحرير سعر الصرف، فسبق أن بلغ التضخم ذروته فى عامى 2017 و2023 على خلفية تخفيض سعر صرف الجنيه المصرى رسمياً، إلى جانب الاستمرار فى جذب مزيد من الاستثمار الأجنبى المباشر لحلحلة الأزمة المالية الراهنة، لجنى ثمار مشروعات البنية التحتية التى تم تنفيذها بكافة ربوع الدولة، خاصة أن سياسات تحقيق استقرار الأسعار تخلق مناخاً مشجعاً للاستثمار والنمو المستدام للقطاع الخاص.

دفعت مصر الثمن غالياً خلال سنوات لم تجرؤ فيها الدولة أو الحكومة على البحث عن حلول جذرية للأزمات الاقتصادية التى كانت تمر بها البلاد.. توقف البناء والتعمير، وانتشرت العشوائيات، وانهارت البنية التحتية للدولة المصرية، وكان الجميع يفكر فقط فى حلول شعبوية تُظهر الاهتمام بالمواطن والحفاظ عليه، وفى حقيقة الأمر أنهم كانوا يبيعون لنا الوهم.. فعلى من يريد بناء المستقبل أن يتحمل من أجل صناعة مستقبل أفضل لأبنائه على مستوى الصحة والتعليم وسوق العمل.. وتجارب الدول التى سبقتنا تؤكد أن الشعوب نفسها قررت أن تتحمل وتضحى من أجل بناء دولتها ولضمان مستقبل أفضل للجميع.