تتصاعد أرقام اشتراكات النوادى الرياضية فى مصر، وتقدم شركات التقسيط عروضها للحالمين الجدد، الشرائح المتوسطة العليا من الطبقة الوسطى، وهى شرائح قلقة تريد مكافأة الذات، على السعى المادى وتخشى السقوط لشرائح أدنى، ويأتى معيار الاشتراكات ليمنح المشتاقين مكاناً تحت مظلة «الإيليت» متدرجة المستويات، هذا المسعى تلمحه فى «خطاب» تعليقات المجموعات الخاصة حتى داخل النادى الواحد، فتشاهد «يمينية ما» ضد الأعضاء الجدد «غير المؤهلين ثقافياً ولا قيمياً للانضمام» بحسب القدامى. أو تجده فى خطاب «سكان النادى الأصلى» فى مواجهة» «سكان الفروع» … وهكذا.
فكرة النوادى الرياضية الاجتماعية بدأت فى مصر مع المحتل، وكانت على النموذج الهندى الذى يضم رياضة وأنشطة اجتماعية. وتأثرت بثقافته الوافدة فراجت مثلاً بداية الأمر الألعاب الفردية كالكريكيت والتنس والجولف. لأنها من جهة تبرز الإنجاز الفردى والتميز الارستقراطى فى مواجهة الرياضة الجماعية للعوام، وكانت الأندية تضم أجانب مقيمين وأرستقراط مصريين. يتحاورون بالفرنسية والإنجليزية ويلبسون الزى الأوروبى … مثلت مكاناً لتكريس عزلة المحتل وتمايزه.
خلال هذه الفترة المبكرة انضمت شريحة غنية أرستقراطية لمجتمعات الأجانب وأتاحت النوادى فرص الزواج المختلط والعلاقات التجارية بين الأعضاء. فى ظل غياب أشكال متطورة من التنظيم (البلديات ومجالس المدن والمنظمات المدنية)، كانت الأندية بمثابة مكان تتخذ فيه القرارات بشكل غير رسمى بشأن المسائل المجتمعية.
وإزاء الطابع المنعزل الذى منحته طبقة الحكم للنوادى مبكراً ظهرت أندية مصرية من منبوذى النوادى المحتلة لبقايا النخبة الوطنية، كانت النوادى الوليدة رد فعل إحيائى للروح الوطنية فى الرياضة، مثلما حدث فى كل شىء وقتها فى الأدب والتعليم والسياسة. الإحياء لمواجهة المحتل.
جاءت «يوليو» لترى فى النوادى بؤراً لصنع مشروعها الجديد، فمركز شباب الجزيرة فى مواجهة إقطاعى نادى الجزيرة.
كانت النوادى أداة سيطرة وحشد لجماهير المشروع الناصرى، ومن هنا مثلاً يمكن فهم التأنى على بقايا الباشوات مثل عبود باشا وزملائه ثم سيطرة عبدالحكيم عامر على الزمالك بتعيين أخيه، أو وجود الفريق مرتجى فى الأهلى، وسامى شرف فى الشمس وهو ما رصدته دراسة كوبوا الشهيرة عن الأندية.
كانت مراكز الشباب أيضاً مشروعاً لصنع مواطن منتج تضمن الدولة توجيهه. ويجر التنمية ويقلل الصرف على المرض. كانت أداة سيطرة على الجسد بنظرة فوكو.
واعتبرت النوادى جزءاً من «فلسفة الشعب العامل» القادر على الإنتاج المتصدى للاستعمار.
تغير المجتمع بعدها، فى السبعينات، والثمانينات، تغيرت أولويات المشروع السياسى وشكل الاقتصاد، صعدت شرائح اجتماعية بفعل تأثير التعليم، والهجرة إلى الخليج، وبزوغ القطاع الخاص وتوسعه وانعكست أولويات الصاعدين وثقافاتهم على الأندية، فكانت فضاء فاعلاً لمشروعات الصحوة الدينية والدعاة الجدد وندوات الفنانات المعتزلات، واستضافت مقراتها صلوات التراويح وتراجعت وانعزلت ممارسات اجتماعية أخرى «متغربة».
ومع التوسع الرأسمالى فيما بعد تسابق رجال الأعمال للوجود فى صفوف مجالس الإدارات للاستثمار فى رأس المال الاجتماعى من جهة، والحصول على أكبر مكسب إعلانى ممكن، مع ضمان الشهرة.. أو الظهور كراعٍ للنادى يصرف على أنشطته ولا ينتظر مقابلاً (وهو نموذج أبوى فى بعض الأندية بالأقاليم) أو القدرة على تسهيل حل مشاكل البيزنس الخاص، على ما صرح مثلاً أحد رؤساء الأندية الكبيرة السابقين: فى حملته الانتخابية التالية.
كانت النوادى كذلك مرآة لنظريات السياسة والإدارة، فهذا مكان تصلح فيه نظرية الرجل العظيم الأوحد الذى يشرف على كل التفاصيل بنفسه، وذاك نادٍ يقوم على التخصص وتقسيم العمل، وهذا حيز للعاطفة والفن، وذاك مكان للأسطرة والصرامة.
لم تكن النوادى أبداً مكاناً للعب والرياضة فقط.. بل مرآة تعكس تغيرات وتفاصيل كثيرة تحت السطح.