عصام زكريا يكتب: وراء كل إمام.. عادل إمام!
هذا تعبير مبالغ فيه، بالطبع، مثل الكثير من التعبيرات المبالغ فيها التى يوصف بها هؤلاء الاستثنائيون، الذين ينبغون فى مجالهم ويتفوقون على أقرانهم ونظرائهم فيوصفون بأنهم «عباقرة»، مع التذكرة بأن العرب القدماء كانوا يعتقدون أن هناك جنياً للشعر اسمه «عبقر» يتلبس هؤلاء الموهوبين الممسوسين بالشعر، وهو اعتقاد لا يختلف كثيراً عن سؤالنا: هل عادل إمام من كوكب آخر؟
هو إنسان عادى، بالطبع، لديه قدر من الموهبة يمكن قياسه بسهولة، على قدر من الكاريزما الربانية التى يصعب قياسها بأدوات التحليل والنقد العادية، على قدر من الذكاء الشديد الذى مكّنه من صيانة هذه الموهبة وهذه الكاريزما على مدار عقود.
وهو أيضاً ابن عصره، وظروف هذا العصر، فلو كان ظهر فى زمن آخر لربما طُمست هذه الموهبة أو انطفأت مبكراً ولربما لم تظهر بالمرة، مثل العشرات والمئات من المواهب التى توأد يومياً لأن المناخ العام والخاص لم يسمح بظهورها.
عادل إمام هو ابن الحى الذى ولد فيه (الحلمية) فى تلك الفترة من تاريخ مصر، تفتّح وعيه على ثورة يوليو 1952 (حتى لو لم يكن يحبها شخصياً، فهو نتاجها ونتاج ما سبقها وما تلاها من حراك فكرى وثقافى وسياسى، ومن صعود ونكوص وأحلام ونكسات). ويمكن الاستطراد فى هذه الظروف المواتية لظهور وتألق موهبته خاصة عقب هزيمة 1967 وانهيار صورة البطل «الناصرى» وصعود صورة البطل الصعلوك غير المنتمى، إلا لنفسه، التى صنعت شعبيته فى أعمال كوميدية ساخرة عبّرت عن أجيال من الشباب المحرومين من الحلم وأساسيات الحياة الكريمة، وصولاً إلى صورة البطل «القومى»، التى تنهل من التراث الشعبى لحكايات الشطار والعيارين والصعاليك، الذين يسعون لتحقيق العدالة خارج إطار القوانين والمؤسسات العاجزة.
يمكن الاستطراد فى رصد الاشتباك والتشابك بين طبيعة شخصية عادل إمام «الفنية» والظروف الاجتماعية والسياسية على مدار خمسة عقود، لكن الأهم هو رصد الكيفية التى استطاع فيها عادل إمام «الحقيقى» أن يفهم هذه الظروف ويكيف شخصيته الفنية معها، حسب كل فترة اجتماعية وسياسية، وكيف استطاع أن يدير هذه الموهبة ببراعة مثل قبطان فى بحر يعج بالعواصف والأعاصير.
فى ظنى أن هذه هى الموهبة الحقيقية لعادل إمام، التى يمكن مقارنتها هنا بموهبة فريد شوقى فى السينما وعمرو دياب، وبالتأكيد بموهبة محمد عبدالوهاب صاحب لقب «موسيقار الأجيال»، وهو لقب يمكن أن يطلق مثله على عادل إمام، الذى استطاع أن يبقى على القمة، منذ اعتلاها، على مدار عقود تعرضت خلالها نجوميته لتحديات ومخاطر جسيمة. ولعل لقب «الزعيم» الذى التصق باسمه هو تعبير عن هذه القدرة على البقاء أكثر منه تعبيراً عن مهارته كممثل.
يجيد عادل إمام التمثيل، بالطبع، ولكن ليست المهارة التمثيلية هى سر تفرده. بالمقاييس العلمية هناك ممثلون يتمتعون بمهارات أفضل، مثلما كان هناك مطربون يتمتعون بمهارات أفضل كثيراً من عبدالحليم حافظ، ومثلما يوجد مطربون يتمتعون بمهارات أفضل كثيراً من مهارات عمرو دياب.
مسألة النجومية والشعبية هذه من أعقد الأشياء فى الفن (وبعض المجالات الأخرى)، وهى تعتمد بالأساس على امتزاج الموهبة (الكبيرة أو حتى المتوسطة) بالجاذبية أو «الكاريزما» التى يصعب قياسها، كما ذكرت.
هناك، مثلاً، مقارنة رائجة بين موهبتى عادل إمام وسعيد صالح، ربما يمكن عقد مقارنات مماثلة بين موهبتى عبدالحليم ومحمد رشدى، أو بين موهبتى عمرو دياب وعلى الحجار.
أتذكر أن مجلة «الكواكب» كانت تصدر تقويماً سنوياً من اثنتى عشرة ورقة تحمل كل منها أيام شهر بعينه مع صورة كبيرة لأحد الفنانين، وكانت والدتى، رحمها الله، تبقى ورقة الشهر التى تحمل صورة عادل إمام معلقة على الحائط دون أن تغيرها على مدار العام، لأن صورته كانت تدفعها للابتسام والراحة كلما نظرت إليها!
لا محل هنا للحديث عن وسامة أو فحولة أو حتى صفة بعينها فى هذه الملامح (غير المتناسقة بالمقاييس التقليدية) لوجه عادل إمام، ولكنها هذه الجاذبية التى كانت تشيع فى وجه عبدالحليم حافظ على الشاشة وتدفع قلوب المشاهدين، إناثاً وذكوراً، للتعلق به دون سبب منطوق.
لا يتمتع عادل إمام (نظرياً) بمواصفات «الفتى الأول» ولا بمواصفات «الفتوة»، ولكن الجمهور يصدق أن أجمل فتيات العالم يقعن فى عشقه وأنه قادر على ضرب كل رجال العالم!
يقول المثل الشعبى «كذب مساوى ولا صدق منعكش». وهو مثل ينطبق على طبيعة الفن، وخاصة التمثيل، كأفضل ما يكون. لا يحتاج عادل إمام إلى بذل الكثير من الجهد ليحبه أو يصدقه الناس. يكفى ظهوره على الشاشة أو المسرح ليشيع البهجة والقابلية للتصديق لدى المشاهدين. ويدرك عادل إمام جيداً أنه لا يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد ليصل إلى الناس. لعل أكثر فيلم بذل فيه مجهوداً هو «الحريف» للمخرج محمد خان، ولكن الفيلم فشل جماهيرياً، ما دفع عادل إمام إلى مقاطعة مخرجى «الواقعية الجديدة» كلهم لأنه أدرك أن جمهوره لا يهتم بمستوى الفيلم أو المخرج بقدر ما يهتم بوجود عادل إمام فى الفيلم.
بالطبع يحتاج هذا إلى مناقشة مطولة، فالحقيقة التى يجب أن نعترف بها أيضاً أن الغالبية الساحقة من أعمال عادل إمام تنتمى إلى «السينما الشعبية»، التى تعتمد على الشخصية والقصة والمشاعر أكثر مما تعتمد على الفكرة والفكر والجماليات السينمائية. وخارج عالمنا العربى يصعب أن يوزع فيلم لعادل إمام على نطاق واسع أو يحقق نجاحاً فى مهرجان دولى. ومن أمارات ذكاء عادل إمام (التى ضيعت عليه وعلينا فرص مغامرات فنية أخرى مثل «الحريف») أنه أدرك ذلك مبكراً، فلم يقترب سوى من المؤلفين والمخرجين الشعبيين الذين لديهم مفهوم مشابه عن ماهية ووظيفة السينما. وحتى تجربة الثلاثى عادل إمام ووحيد حامد وشريف عرفة هى وليدة تجانس وُلد فى لحظة بعينها من عمر الوطن، ربما لم تكن لتنجح لو أنها جاءت قبل أو بعد عشر سنوات من زمنها. وهى فترة فرضت على عادل إمام أن يتخلى عن برجه العاجى وأن يهبط إلى قلب المعركة الدامية ضد قوى التطرف والفساد التى راحت تنهش فى قلب الأمة. هذه المعركة التى وصلت إلى ذروتها فى يناير 2011.
لقد وظف عادل إمام الإنسان إمكانياته كلها (بداهته الفطرية ومعارفه المكتسبة وخبراته الحياتية) من أجل خدمة شىء واحد فقط هو رعاية وحماية ودعم الممثل عادل إمام.
يقال إن وراء كل عظيم امرأة، ولكن قبل المرأة وراء كل عظيم نفسه، يدرك حجم موهبته وإمكانياته ويسعى إلى صيانتها وصقلها وحمايتها، وفى هذا يكمن سر عادل إمام الحقيقى