القضية السكانية والمُكايدات السياسية
أحد أخطر الأخطاء الشائعة في الفهم العمومي للقضية السكانية يتعلق بالاعتقاد بأن زيادة السكان، أو قلتهم، يمكن أن يكون هدفاً استراتيجياً ثابتاً لأي دولة، وفي أي وقت.وسيمكن ببساطة شديدة أن نجد كثيرين يعتقدون في تمام صحة هذا الاعتقاد أو ذاك، بينما الواقع يشير بوضوح إلى غير ذلك تماماً؛ إذ إن الحالة السكانية يجب أن تكون متوافقة مع الظرف الموضوعي الخاص في كل دولة، وفي كل زمن.
ولدينا على سبيل المثال دول تقتضي حالتها التنموية ومتطلباتها الدفاعية أن تبحث عن طرق فعالة لزيادة السكان بها، في فترة زمنية محددة، وإلى حدود معينة، بينما في المقابل سنجد دولاً تفرض عليها ظروفها اتخاذ خطوات جريئة لخفض معدلات النمو السكاني بها.فدول الخليج العربية مثلاً، التي تعاني من انخفاض كتلتها السكانية الوطنية إلى حدود لا تسمح لها بانتهاج السياسات المناسبة في مجالات التنمية والدفاع، ستكون مطالبة باجتراح وسائل شتى لتعزيز معدلات النمو السكاني، بما يعالج تركيبتها السكانية، ويخفض اعتمادها على العمالة الأجنبية، ويمنحها القدرة على تنفيذ مخططاتها الواعدة في مجالات العمل الوطني، والحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي مرتفعة.
وينطبق الأمر ذاته على بعض الدول الإسكندنافية، التي رغم تحقيقها المراتب الأولى في مؤشرات التنمية البشرية والسعادة العالمية، وتمتعها بدرجة عالية من الاستقرار السياسي، والأمن، فإنها بدأت تعاني من تراجع واضح في مقدراتها السكانية.فبعض تلك الدول بدأت ترصد تراجعاً مطرداً في المواليد، بموازاة استقرار معدلات الوفاة، وهو الأمر الذي انعكس مباشرة في انخفاض معدلات الزيادة السكانية الطبيعية، وقد حدث هذا بموازاة ازدهار النزعة الفردانية، وتقلص الرغبة في إنجاب الأطفال، وظهور أنماط جديدة للزواج، وأشكال جديدة للأسرة، مما حدّ من عدد السكان المواطنين في سن العمل، وأخذ المجتمع والدولة إلى حالة من الشيخوخة، التي يمكن أن تقوض القدرة على إحداث النمو وإدامته.
لقد حدث هذا التراجع المطرد في نسبة المواليد في نحو 82 دولة من دول العالم، وهي دول أيقنت أن ذلك التراجع يؤثر في قوة العمل الوطنية؛ كما هو حادث في كوريا الجنوبية، وروسيا، وألمانيا، واليابان، وغيرها.ولكي تواجه تلك الدول هذه المشكلة عمدت إلى برامج وخطط وطنية، وتعديل اللوائح لمنح إجازات رعاية أطفال للوالدين، بل إن بعضها رصد مكافآت مالية سخية للأسر التي تقدم على الإنجاب.لكن القضية السكانية لها بطبيعة الحال وجهها الآخر؛ وفي هذا الصدد ستظهر دول الوفرة السكانية الضخمة؛ مثل الهند والصين، وتلك الأخيرة بالذات تعد صاحبة الأنموذج الأوضح في هذا الصدد.فعندما وجدت السلطات الصينية أن التزايد السكاني في البلاد يمكن أن يقوض مكتسبات التنمية، ويلتهم الموارد الطبيعية المحدودة، قررت في العام 1979، سن قانون الطفل الواحد، وأتبعته بحزمة من الإجراءات والعقوبات، ضمن ما عُرف آنذاك بـ "سياسة تخطيط الأسرة".
لكن بحلول العام 2013، كانت الصين قد أحرزت نجاحاً باهراً في سياسة الحد من النمو السكاني، وبموازاة ذلك ارتفع دخل المواطنين، وتحسنت مستوياتهم الاجتماعية والثقافية، وخرج مئات الملايين من الفقر، وتعزز أداء الخدمات العامة، فبدأت الدولة في التخفيف من قيودها على الإنجاب، وسمحت لفئات مختلفة بإنجاب الطفل الثاني، قبل أن تشرع في بعض سياسات التحفيز في هذا الشأن.
تعطينا تلك السياسات التي تُطبق في دول مختلفة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب المثال الواضح على طبيعة القضية السكانية، وديناميكيتها، وضرورة أن تكون سياسات التخطيط السكاني مرنة بما يكفي لمقابلة الظروف المحددة التي تعيشها كل دولة، في ضوء متطلباتها التنموية والدفاعية.لذلك، فإن الأنباء التي أشارت إلى تراجع معدلات النمو السكاني في مصر، ذات الـ 106 ملايين من السكان، إلى 1.4 في المائة في العام 2023، كأدنى معدل من نوعه منذ خمسين عاماً، إنما تجسد اختراقاً سكانياً حقيقياً، يمكن أن يساعد الدولة في خططها التنموية، وأن يرشد استخدام الموارد الطبيعية.
فقد أظهرت تلك الأنباء انخفاضاً في معدل النمو السكاني بنسبة 7 في المائة، مقارنة بالعام 2022، وبنسبة 46 في المائة مقارنة بتعداد العام 2017، وهو الأمر الذي تحقق بفضل تراجع معدل المواليد بنسبة 6.8 في المائة، بما يعني بقاء عدد المواليد عند مليونين و44 ألفاً سنوياً.يقول بعض النقاد أن هذا التراجع لم يحدث نتيجة لـ "سياسات تخطيط أسرة" ناجعة بقدر ما كان نتيجة للأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وما انطوت عليه من تزايد في معدلات التضخم، وتراجع في قيمة العملة الوطنية، وهو أمر يمكن أن يكون صحيحاً، لكن مع ذلك، فإن هذا التراجع يصب في الاتجاه الصحيح، ويمكن البناء عليه واستثماره، بموازاة الإصلاحات الاقتصادية التي يجب أن تحسن الأوضاع المعيشية.
لكن الحديث عن أن هذا التراجع من شأنه أن يضعف الكتلة السكانية، أو يحد من قدرة الدولة على الوفاء بمقتضيات التنمية، فليس سوى مُكايدة سياسية مُتهافتة؛ ذلك أن النمو السكاني المصري ما زال وافراً بما يكفي، ونسب الشباب ضمن المجموع السكاني قياسية، والتركيز على تحسين مؤشرات التنمية البشرية لهذه الكتلة السكانية، وتعزيز أدوارها في العمل الوطني، سيكون هو ما تحتاجه الدولة، وما يأمله الجمهور.