«أوديب في الطائرة».. تراجيديا على هامش «ثورة»

ثمة الكثير مما يثير الدهشة والإعجاب فى مسيرة كاتبنا الكبير الأستاذ محمد سلماوى الوطنية والمهنية والإنسانية والأدبية؛ إذ استطاع أن يمتلك تكويناً ثقافياً بديعاً، انفتح خلاله على الثقافة العالمية فى أهم منابعها وأنشط مجرياتها، بالتوازى مع إدراك فنى وفكرى عميق لخصوصية الثقافة الوطنية وروافدها القومية الفريدة.

ولذلك لم يكن صعباً أن يكتب المسرحية فيُبدع ويتألق، ويمنحنا «سالومى» و«الجنزير»، وأن يكتب الرواية فتُحلق أفكاره مع «أجنحة الفراشة»، ونلمح قدرته الواعية على الاستشراف المؤسس على قواعد الاستنباط العقلى واليقظة الوجدانية.

ليس التنوع هو أفضل مزايا تجربة «سلماوى» الإبداعية، وليست الاستدامة التى حافظت على الرُّقى والفاعلية، ولكن كون هذه التجربة هى بنت عصره، الذى عاصره، وانخرط فيه، وأثّر، وشارك بشغف ومسئولية، فلم يكن غائباً حين وقعت الأحداث الكبرى.. حضور «ناصر» وغيابه، ثورة يوليو بنورها ونارها، الهزيمة والانكسار، الانتصار وتحرير الأرض، وكل ما صاحب ذلك من تحولات اجتماعية وفكرية وثقافية صاخبة وعاتية.

فى سجله الشخصى والإنسانى «يوماً أو بعد يوم» (2017)، أطلعنا «سلماوى» على الكثير من ذلك؛ فقد كان موجوداً حين حدثت هذه التحولات، وصولاً إلى عهد «مبارك»؛ أى تلك العقود الثلاثة، التى حدثت خلالها «الأخطاء الكبرى»؛ أخطاء قد تتجاوزها عين مُشفقة، أو تتغاضى عن تبعاتها، لكن عين الفنان والمثقف والمفكر المهموم ستلحظ أنها تصنع الكارثة، وتجسّد «جرائم شنعاء»، تستحق «عقاباً قدرياً».

هنا ستظهر قدرة «سلماوى» وبراعته، حين سيلتقط ذلك الفصل من التجارب التى عاصرها، على مدى حياة حافلة بالخطوب العامة، وسيركز على بطله؛ أى الرئيس مبارك، الذى أطل على الجمهور فى مستهل حضوره فى مشهد أسطورى تحوطه فيه أكاليل الغار كبطل مقاتل شارك فى تحقيق الانتصار الوطنى، ثم كزعيم مُطلق الصلاحيات، يحظى بالمجد والتأييد، قبل أن تحل نهايته فى المشهد الأخير.. متهماً فى قفص الاتهام، ومُطالباً بتفسير كل ما حدث فى عهده المديد من «انتكاسات جلبت الخراب»، وبتحمّل مسئوليته.

هنا سيدرك «سلماوى» أن عليه أن يُسجل هذا المشهد الأخير الذى رفض فيه «مبارك» النزول من الطائرة إلى قفص الاتهام، ليقضى محكومية لقاء ما نُسب إليه من فساد وإخفاق فى تحمّل المسئولية المادية والأخلاقية. وهنا ستظهر براعة «سلماوى»، كما اعتاد فى مفاصل فنية سابقة، فى استدعاء «أوديب ملكاً»، تلك التراجيديا اليونانية التى أبدعها «سوفوكليس»، مرتكزاً على تيمة فنية وأخلاقية تراوح دلالاتها ما بين الاعتداد الذى يولد الفخر المطلق، ويعوق الاعتراف بالخطايا، ويأخذ المصاب به إلى حالة الإنكار، والشفقة على النفس، بموازاة الغضب من «ظالميه» و«منتقصى قدره».. الآخرين. إنها الحالة الفنية التى تمزج تجليات علم النفس بتحولات الشخصية ودوافع سلوكها، والتى تحتاج روائياً قادراً على إدراك هذا الامتزاج وترجمته فنياً.

عندما ستقرأ «أوديب فى الطائرة» الصادرة أخيراً عن دار «الكرمة»، فى 127 صفحة، يجب ألا يأخذك الاهتمام بتدفّق الحكى، أو سلاسة اللغة، أو جمال التشبيه، عن المغزى الكامن فى الموقف السياسى، الذى يطل ببراعة من دون زعيق أو مباشرة. كما أن هذا الأخير يجب ألا يشغلك عن القدرة اللافتة فى صياغة هذه الوقائع، التى لم نخرج من أسرها بعد، بطريقة شديدة الإخلاص للمقتضيات الفنية.

تتكشّف أبعاد المأساة الأسطورية فى رواية «أوديب فى الطائرة» بعد اعتراف الملك أوديب أنه لم يقتل الوحش الرابض على مشارف طيبة (أبوالهول)، الذى كان بوجه امرأة وصدر وأرجل أسد وجناحى نسر، حسب التراجيديا السوفوكليسية، وإنما واجه مجموعة من قطّاع الطرق خارج طيبة، فقتل قائدهم وفر الباقون هاربين، ودخل طيبة متوجاً ملكاً عليها، وتزوج من زوجة الملك الراحل لايوس، الذى أشيع أن قطاع طرق قتلوه وهو يبحث عن الوحش، ويعرف «أوديب» بعد ذلك أنه قتل والده، وتزوج أمه (جوكاستا)، لذلك حلت اللعنة على طيبة.

وفى الرواية يرفض «أوديب» أن يترك مملكته تلبية لدعوات الملوك الذين طلبوا استضافته، الأمر الذى يمكن أن نجد مرادفاً له فى حكاية بطل «تراجيديا ثورة يناير 2011 المصرية». كما أن «أوديب» يرفض أيضاً النزول من الطائرة ودخول السجن، محتجاً بأنه بطل قومى وليس مجرماً أو لصاً.

ولأن «أوديب» يجب أن ينزل من الطائرة ليواجه مصيره؛ فقد ذهب إليه العراف تيريسياس لإقناعه، متذرّعاً بأن «الأقدار أرسلته ليضع نهاية للرواية».

يجادل أوديب (الملك) بأن كل ما نُسب إليه من جرائم وخطايا ليس سوى «أكاذيب أنت الذى روجتها فى جميع أنحاء البلاد. كنت تجوب الطرقات تؤلب الناس ضدى».

لكن تيريسياس يبدو واثقاً فى حكمه ومُخلصاً لمهمته: «بل أنا الذى نبّهت بالكارثة، وبصّرت بطريق الخلاص».

وفى النهاية ينجح تيريسياس فى إقناع أوديب بالنزول لتنفيذ «نبوءة الآلهة»، ورفع البلاء عن البلاد: «اتعظ يا أوديب. وامتثل للحقيقة. اقبل بمصيرك، حتى ترضى عنا الآلهة، وترفع عنا البلاء، وننتهى من هذه الرواية».

يقتنع أوديب. ينزل من الطائرة. وبعد أيام قليلة يفارق الحياة.

فى المآسى والكوارث الكثير من الآلام والدروس، لكن يبدو أن هذا لم يكن كافياً أبداً لمنعها من الحدوث مرات ومرات، وعلى مر الأزمنة.