قهوة الفواعلية.. أصرف 50 جنيه ولا يقولي الزبون "أنا جايبك من ع الرصيف"

كتب: سلوى الزغبي ومحمد شنح

قهوة الفواعلية.. أصرف 50 جنيه ولا يقولي الزبون "أنا جايبك من ع الرصيف"

قهوة الفواعلية.. أصرف 50 جنيه ولا يقولي الزبون "أنا جايبك من ع الرصيف"

"القهوة ورث، وقعدتها رزق الشقيانين".. في عامه الثالث عشر، اقتفى أثر الراحلين من القرية التي ضاق رزق "جمع الفاصوليا" فيها على أهلها بعد زيادة المتطلبات المعيشية، واستقرت أقدام السعي عن قوت اليوم حيثما ولَّى النازحون من الأجداد والآباء وجههم شطر قهوة "حسن حسين" بميدان باب الشعرية.

متمسكًا بعزة النفس الصعيدية تمسكه بزيه الذي لم تغيره المدينة، مفضلًا الجلوس في القهوة، "بدل ما نقعد في الشارع، القهوة مصدر رزق شيك ومحترم"، يقتنع بذلك "أحمد غانم" وكل مَن يعمل معه في "طائفة المعمار"، رافضين الجلوس أمام الحدائق وفي الميادين العامة على الأرض، صانعًا آدميته، حتى لا يقول له "صاحب المصلحة": "أنا جايبك من على الرصيف".

على رصيف القهوة المتهدلة جدرانها، وتجعدت أركانها من فرط استهلاك النازحين لها، يبدأ الرجل الأربعيني يومه كما اعتاد منذ حوالي 21 عامًا، في السابعة صباحًا، جالسًا في الركن الأيسر من قهوة الأقدمين، كما كان يفعل في إجازة الدراسة حتى انتهى منها، مُتعشِّمًا في الله أن يجود عليه بـ"زبون" ليحصل على أجرة يومه 80 جنيها، يذهب بهم إلى زوجته وأطفاله الأربعة في شقتهم الصغيرة، معوضًا إياهم عن ترك النصف قيراط المنتظرهم في بلدتهم "العياط" بمحافظة الجيزة، وإمدادهم بمتطلبات حياتهم البسيطة.

"الزباين بتكون من الأماكن اللي حولينا، ميدان الجيش أو العتبة أو الموسكي"، إن لم يأته أحد يتركها في الواحدة ظهرًا، وإن استمر الحال طويلًا يعمل "بوابا" في إحدى العمائر التي تمتاز بأن طلبات سكانها محدودة، فقبل الطعام يبحث عن علاج ابنيه المعاقين بـ"الصم" وتلزمهم 4 سماعات تتكلف الواحدة منهم 3200 جنيه.

تبرَّأت يده الشابة من عمرها المكتوب وراقت للطور السبعين من أثر الأسمنت ومواد البناء حتى ظهرت له "أجزيمة" كما يطلق عليها، وهى حساسية من الأسمنت فمنعه الطبيب من وضع يده فيه، وهو ما يستحيل فعله، لاجئًا إلى حقن "الكورتيزون" كمسكن مؤقت، مدركًا أنه يأكل من جسده ولا يعبأ طالما "يطعم أطفاله".

"إحنا اللي بنبني مصر ولا لينا شيخ ولا نقابة".. يفخر "غانم" بأنه ينتمي إلى الطائفة التي جعلت مصر وسوريا معروفين بـ"أنضف معمار"، حزينًا من عدم وجود نقابة تحمي من فاق سن الستين، أو مَن باغته المرض يومًا، شاعرًا بأن شهادة "المعهد الفني التجاري" لم تفيده في الحصول على وظيفة، ولا عمله الحالي يوفر له أمنًا معيشيًا.

العزوة في وجود أولاد الأعمام والأخوال، كانت خير سند لـ"صباحي محمد جمعة" في الالتحاق بمهنة طائفة المعمار، معتبرًا كما تعلم واعتاد أن "القهوة باب رزق، بنقعد عليها من 7 الصبح لحد ما تيجي اليومية، ونصرف لو اترزقت أو ما اترزقتش في أقل اصطباحة من شاي وفطار 15 جنيه".. ترك الشاب العشريني دراسته في أول عام من دبلوم الزراعة، وعمله بـ"المكواة والميكانيكا"، ملتحقًا بـ"شغلانة الشقا والرزق".

صاحب القهوة لن يتركهم يجلسون إذا لم ينتفع، متمركزًا رزقه حولهم في طلب الشاي والقهوة لأنفسهم ولمَن يجالسهم، كما يروي "صباحي وغانم"، بدءًا من كوب الشاي بجنيه ونصف حتى يجدوا في نهاية اليوم، إذا لم يخرجوا في عمل، بأنهم صرفوا 50 جنيها.

ابتسامة الرضا رغم ضيق الحال لم تفارق وجه الشاب العشريني، الذي يؤكد أنه لن يشعر بالشقاء إلا بعد بلوغ عامه الثلاثين، داعيًا المولى بأن يسترها عليه وعلى أولاده وأكل العيش بالحلال، منتظرًا "المقاول" أو "الزبون" حتى يُرزق بعمل يذهب بثماره إلى أسرته في "العياط" ويدبر عيشته في الشقة التي استأجرها مع ثلاثة آخرين بـ500 جنيه في الشهر وتدابير يومه، وإلا كان السلف حليفه إذا ضاقت جدران القهوة عن خيراتها.