اللحظة الراهنة بين الطابور الخامس وإطلالة الماضى
الطابور الخامس لا يزال نشطاً، ينتظر اللحظة، يصطنع الحدث، يتآمر باسم الثورة، يسعى إلى إثارة الجماهير بعناوين مختلفة، لا يكلّ ولا يمل، إنه مكلف بمهمة تدمير هذا الوطن، وإشاعة الفوضى على أراضيه.
منذ أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير والحرب لم تتوقف، افتعلوا الكثير من الأزمات، باسم الثورة أسقطوا الشرطة، أحرقوا أقسام البوليس، وأطلقوا سراح المجرمين من السجون، ودمروا جهاز أمن الدولة.
وباسم الثورة أرادوا جرجرة الجيش إلى معركة ضروس مع الشعب، لكن القيادة كانت واعية للمخطط، تحملت الكثير ونجحت فى تفويت الفرصة.
أرادوا تعطيل مرافق الدولة، وتسببوا فى إغلاق العديد من المصانع، استغلوا حاجة العمال البسطاء، وسعوا إلى إثارتهم لإحداث الخراب الاقتصادى فى البلاد، كانت الشعارات المرفوعة هى كلمة حق يراد بها باطل؛ ولكن وعى العمال وحرصهم على مصانعهم ووطنهم كان لهما بالغ الأثر فى وأد المخطط، حتى ولو جاء بعد حين.
وقد لعبت بعض وسائل الإعلام دوراً مشبوهاً فى إعلان هذه الحرب، واستضافة عناصر هذا الطابور التى أهالت الثرى على كل شىء، وأحدثت الانقسام المجتمعى بعيداً عن الأهداف الحقيقية للشارع المصرى الذى ثار على حكم الفساد والاستبداد.
كانت أياماً صعبة مهّدت الطريق لسيطرة الإخوان على البرلمان ورئاسة الجمهورية، وخلال هذه الفترة بدأت تتكشف فصول المخطط رويداً رويداً.. أدرك الناس أن حروب الطابور الخامس لم تكن لوجه الله والوطن، بل كانت مؤامرة لها أهدافها، ووسيلة لها مراعيها، لقد عرف الناس أن كثيراً من حمَلة الشعارات وصنّاع الإثارة كانوا مجرد أدوات لجماعة الإخوان وسيدهم الأعظم فى واشنطن وتل أبيب، لقد سعوا إلى اغتيال الجميع، وتصنيف الناس، وأمسكوا بصكوك الوطنية يوزعونها وفق حسابات محددة، كلها أدت إلى دفع البلاد نحو الهاوية.
وبعد إسقاط حكم الإخوان ونجاح ثورة الثلاثين من يونيو، سقط الغطاء عن الطابور الخامس، ظهرت الوجوه على حقيقتها، وعرف الناس من الخائن ومن الوطنى الحقيقى، أدركوا من هو «أيقونة المؤامرة»، ومن هو «أيقونة الثورة» خاصة بعد أن تكشّفت تفاصيل وحقائق عمليات التمويل الواسعة لمخطط الفوضى والتخريب فى البلاد.
لقد ظن البعض فى هذا الوقت أن دور الطابور الخامس قد انتهى بعد أن كشفت الوقائع عن رموزه ودورها وأهدافها، غير أن الواقع كان عكس ذلك، فقد راحت تبحث عن وسائل مختلفة للنفاذ إلى المجتمع من جديد.
ولم يقتصر الأمر هذه المرة على من كانوا يسمون أنفسهم بـ«الثوريين»، بل امتد الأمر إلى من يسعون لعودة الماضى بفساده واستبداده، ظناً منهم أن ذاكرة الجماهير سوف تنسى سريعاً، وأن الأوضاع الفوضوية التى شهدتها البلاد فى أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير كفيلة برد الاعتبار إلى النظام السابق ورموزه.
ونسى هؤلاء، أو تناسوا، أنهم كانوا سبباً رئيسياً فى غضبة الجماهير وثورتها، وأنهم منحوا الإخوان السند الحقيقى للوجود فى طليعة الشارع المصرى خلال هذه الفترة، وأنهم رفضوا الإذعان أو الاستماع إلى أوجاع المصريين وسعيهم الدؤوب نحو الإصلاح السلمى.
وإذا كان البعض منهم يظن أنه قادر على العودة مرة أخرى ليطل على الجماهير بأى صيغة أو وسيلة كانت، فهذا اعتقاد خاطئ، مبنى على حسابات غير صحيحة، وقد يدفع بالجماهير إلى مواقف عدائية لا حدود لها.
كان الأولى بهؤلاء أن يتواروا بعيداً عن المشهد، وألا يكونوا سبباً فى مزيد من الاحتقان داخل الشارع المصرى، ذلك أن أحكام البراءة التى حصلوا عليها لن تغنى عن حكم «الإعدام الشعبى» الذى صدر ضدهم منذ سنوات عدة.
إن الواقع يشهد بأن مصر عانت على يد هذه الرموز فقراً وفساداً واستبداداً، كان من نتيجته انهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وترسيخ حكم الفرد فى البلاد، والحقائق والأرقام هى خير عنوان لذلك، كما أن زيادة نسبة الفقر والجهل والمرض فى المجتمع المصرى طيلة العقود الماضية هى دليل لا يمكن محوه من الذاكرة بمضىّ الأيام..
وإذا كان البعض يسعى إلى المقارنة، فيجب عدم مقارنة سنوات الفوضى الماضية بما يسمى الاستقرار «الهش» الذى عاشته مصر فى مرحلة ما قبل ثورة 25 يناير، المقارنة العادلة هى بهذا الزمن الذى نعيش فيه، وتحديداً منذ انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيساً للبلاد.
لقد بعث الرئيس السيسى فى شهور قليلة الأمل مجدداً فى النفوس، وضع يده على الداء وسعى إلى الدواء، تعامل مع الأزمات بكل صراحة وشفافية، رفض منطق التبعية ودافع عن الاستقلال الوطنى، استطاع أن يلملم الشتات وأن يعيد بناء مؤسسات الدولة، وأن يمد يده للجميع من أجل الوطن والأمة.
إن أحداً لا يستطيع أن يشكك فى أحكام القضاء، ولكن فى نفس الوقت ليس معنى الحصول على أحكام البراءة فى عدد من القضايا، أن مصر لم تكن تعانى فساداً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، هذه حقائق يشهد بها الجميع حتى من كانوا ينتمون إلى رجالات نظام «مبارك» فى أوقات سابقة.
وإذا كان البعض منهم قد اعتذر عن تجاوزات وجرائم شهدتها البلاد فى تلك الفترة، فليس معنى ذلك أن الطريق بات ممهداً لعودتهم، خاصة تلك الرموز التى كانت سبباً فى الانهيار والثورة.
نعم، هناك فارق بين شخصيات عادية انتمت إلى الحزب الوطنى (المنحل) ولم تفسد أو تتورط فى جرائم بعينها، غير أن هناك وجوهاً يبدو مجرد ظهورها فى أى مناسبات إعلامية أو جماهيرية مثيراً للاستفزاز والاحتقان فى المجتمع، أياً كانت المبررات أو الأساليب.
من هنا يمكن تفهم ثورة البعض وغضبهم على إطلالة هذه الوجوه مرة أخرى، بعد أن رفضتها الجماهير وأسقطتها من السلطة، ذلك أن هذا الغضب يعنى أن روح «الثورة» لم تنطفئ من العقول، وأن الحرص على استمراريتها ورفض الماضى بكل أشكاله وألوانه هو تأكيد على هذا النهج.
غير أن هناك فارقاً كبيراً بين الرفض الموضوعى الذى تتوافق عليه غالبية الجماعة الوطنية، وبين محاولة الإثارة بغرض النكاية والتحريض ضد النظام الوطنى الحاكم، بزعم أنه يدعم هذه العناصر، ويفتح الطريق أمامها للعودة مجدداً.
إن الرد الطبيعى على هذه الادعاءات يقول ببساطة إننا نعيش مرحلة مختلفة فى إطار مشروع تُجمع عليه الجماعة الوطنية ويقوده رئيس منتخب انتخاباً نزيهاً وبنسبة تتجاوز الـ97٪.
وإذا كان النظام الحالى لا يأخذ الناس بالشبهات ويحترم أحكام القضاء، فهو يميز أيضاً بين المتورطين والمعادين لمصلحة البلاد وبين العناصر الأخرى التى لم تتورط فى أية جرائم سياسية أو اقتصادية سواء كانوا سياسيين أو رجال أعمال أو مسئولين سابقين.
صحيح أن النظام لن يضع قيداً على تحركات أحد، ولن يُصدر أحكاماً أو قرارات بالإقامة الجبرية على أحد، ولكن يجب على هذه العناصر أن تتوارى عن المشهد، احتراماً لإرادة الجماهير وخياراتها.