دور القضاء في تجديد الخطاب الديني
يمكن لأحكام القضاء أن تلعب دوراً مهماً فى تجديد الخطاب الدينى. والواقع أن ذلك أمر بدهى، بالنظر إلى أن مهمة القضاء هى إنزال حكم القانون على الوقائع والحوادث. ولما كانت الحوادث والنوازل متجددة، والنصوص متناهية، لذا يبدو من الطبيعى أن يجتهد القضاة فى استخلاص الحكم القانونى.
ولما كان قانون الأحوال الشخصية مستمداً من الشريعة والفقه الإسلامى، لذا فإن من الطبيعى أن يعمل القاضى اجتهاده فى شأن بعض الموضوعات ذات الأصل الشرعى، متى كانت النصوص الشرعية غير قطعية الثبوت أو غير قطعية الدلالة أو كانت غير قطعية الثبوت والدلالة معاً.
وللتدليل على ما سبق، يمكن أن نضرب مثالاً ببعض الأحكام الصادرة عن دائرة الأحوال الشخصية بمحكمة النقض المصرية. ففيما يتعلق بحق الطاعة المقرر للزوج على زوجته، وفى حكمها الصادر بتاريخ التاسع من ديسمبر سنة 2014م، قضت محكمة النقض بأن «من المقرر فى قضاء هذه المحكمة أنه وإن كانت الطاعة حقاً للزوج إلا أن ذلك مشروط بأن يكون الزوج أميناً على نفس الزوجة ومالها، فلا طاعة له عليها إن تعمد مضارتها بالقول أو الفعل، ويندرج فى ذلك اتهامها بارتكاب الجرائم، ولا يتنافى ذلك مع كون أن التبليغ عن الجرائم من الحقوق المباحة للأفراد، وأن استعماله فى الحدود التى رسمها القانون لا يرتب مسئولية، إلا أن الزوج بالنسبة للزوجة يمثل الحماية والأمن والسكن وهو ما يتجافى مع استعدائه للسلطة ضدها بما يجعله غير أمين عليها.
لما كان ذلك، وكان الثابت فى الأوراق أن الطاعنة قد تمسكت أمام محكمة الموضوع ضمن أسباب اعتراضها على إنذار الطاعة موضوع التداعى بأن المطعون ضده غير أمين عليها نفساً ومالاً لقيامه بالإبلاغ عنها بسرقة منقولات الزوجية وقدمت صورة رسمية من المحضر الإدارى رقم 4123 لسنة 2001 طوخ الذى تم حفظه فتقدم المطعون ضده بتظلم لاستخراجه من الحفظ لسؤال شهوده حول واقعة اتهامه لها بالسرقة، فتم استخراجه من الحفظ وسئل الشهود عن الواقعة وبعد أن أرفقت تحريات المباحث أعيد للحفظ، وكان الحكم المطعون فيه قد أقام قضاءه بإلغاء الحكم المستأنف وبرفض الدعوى مخالفاً بذلك الدلالة المستمدة من المحضر سالف الذكر والتفت عنه واعتبر أن المطعون ضده حرر ذلك المحضر لإثبات واقعة خروج الطاعنة من مسكن الزوجية، دون أن يبحث أثر هذا الاتهام على مدى أمانته عليها ولم يتناوله فى أسبابه.
واعتبر أن الطاعنة قد عجزت عن إثبات أمانته عليها حال أن اتهام المطعون ضده لها بارتكاب جريمة سرقة وعلى نحو ما سلف بيانه يرتب عدم طاعتها له بعد أن تعمد مضارتها بالقول والفعل بما يجعله غير أمين عليها، وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر فإنه يكون معيباً بما يوجب نقضه لهذا السبب دون حاجة إلى بحث باقى الأسباب».
وتتلخص واقعات هذا الحكم فى أن الطاعنة أقامت الدعوى رقم 830 لسنة 2001 أحوال شخصية بنها الابتدائية على المطعون ضده بطلب الحكم بعدم الاعتداد بإنذاره لها بالدخول فى طاعته المعلن لها بتاريخ 16/7/2001 واعتباره كأن لم يكن على سند من القول إنها زوج له وقد دعاها بموجب هذا الإنذار للدخول فى طاعته بالمسكن المبين به، ولاعتدائه عليها بالضرب والسب ولعدم شرعية مسكن الطاعة لشغله بسكنى الغير فقد أقامت الدعوى.
أحالت المحكمة الدعوى إلى التحقيق وبعد أن سمعت شاهدى الطاعنة حكمت بتاريخ 24/11/2002 بعدم الاعتداد بإنذار الطاعة محل الاعتراض واعتباره كأن لم يكن. استأنف المطعون ضده هذا الحكم بالاستئناف رقم 4 لسنة 36 ق طنطا «مأمورية بنها» وبتاريخ 22 /6/2004 قضت المحكمة بإلغاء الحكم المستأنف وبرفض الاعتراض على إنذار الطاعة.
طعنت الطاعنة فى هذا الحكم بطريق النقض، ناعية عليه القصور فى التسبيب والفساد فى الاستدلال ومخالفة الثابت فى الأوراق. وفى بيان ذلك، تقول إن الحكم المطعون فيه قضى برفض الدعوى على سند من عدم اطمئنانه لأقوال شاهديها وما استخلصه من المحضر رقم 4123 لسنة 2001 إدارى طوخ والذى تم حفظه من أن المطعون ضده كان يقصد ببلاغه ضدها إثبات واقعة خروجها من منزل الزوجية وذلك بالمخالفة للثابت به من اتهامه لها بسرقة منقولات الزوجية وهو ما يقطع بعدم أمانته عليها نفساً ومالاً، الأمر الذى يعيب الحكم المطعون فيه بما يستوجب نقضه.
وقد استجابت المحكمة لهذا النعى، مصدرة حكمها سالف الذكر (راجع: نقض 9 ديسمبر سنة 2014م، الطعن رقم 788 لسنة 74 القضائية أحوال شخصية).وفيما يتعلق بحق الطاعة أيضاً، وفى حكمها الصادر بتاريخ الرابع عشر من أبريل 2015م، قضت محكمة النقض بأن «من المقرر -فى قضاء هذه المحكمة- أنه ولئن كانت الطاعة حقاً للزوج على زوجته إلا أن ذلك مشروط بأن يكون الزوج أميناً على نفس الزوجة ومالها، فلا طاعة له عليها إن تعمد مضارتها بالقول أو بالفعل، ويندرج فى ذلك اتهامها بارتكاب الجرائم ولا يتنافى ذلك مع كون التبليغ عن الجرائم من الحقوق المباحة للأفراد وأن استعماله فى الحدود التى رسمها القانون لا يرتب مسئولية، إلا أن الزوج بالنسبة للزوجة يمثل الحماية والأمن والسكن وهو ما يتجافى مع استعدائه للسلطة ضدها بما يجعله غير أمين عليها، وأنه إذا كان ما ساقه الحكم المطعون فيه فى أسبابه لا يواجه الدفاع الذى أثاره الطاعن وكان هذا الدفاع جوهرياً مما قد يتغير به وجه الرأى فى الدعوى فإن الحكم المطعون فيه يكون معيباً بقصور أسبابه.
لما كان ذلك، وكانت الطاعنة قد قدمت ضمن مستنداتها أمام محكمة الاستئناف صورة رسمية من الحكم الصادر فى الجنحة رقم 27610 لسنة 2004 قسم ثان شبرا الخيمة الذى يتهمها فيه المطعون ضده بالبلاغ الكاذب والذى قضى فيها ببراءتها ورفض الدعوى المدنية، وإذ أهدر الحكم المطعون فيه دلالة هذا المستند بمقالة إن (تلك المستندات ليس لها حجية الأمر المقضى) وهو ما لا يواجه دفاع الطاعنة مما حجبه عن بحث أثر هذا الاتهام على مدى أمانته عليها فإنه يكون معيباً بالفساد فى الاستدلال والقصور فى التسبيب مما يوجب نقضه».
وتتحصل وقائع هذا الحكم فى أن الطاعنة أقامت الدعوى رقم 1319 لسنة 2002 أحوال شخصية بنها الابتدائية «مأمورية قليوب» على المطعون ضده بطلب الحكم بعدم الاعتداد بإنذاره لها بالدخول فى طاعته، وقالت بياناً لذلك إنها زوج له وإنه دعاها بموجب هذا الإنذار بالدخول فى طاعته فى المسكن المبين بذلك الإنذار وإن ذلك المسكن غير شرعى وأنه غير أمين عليها نفساً ومالاً ومن ثم فقد أقامت الدعوى، وبتاريخ 22 من أبريل 2004 حكمت المحكمة برفض الدعوى.
استأنفت الطاعنة هذا الحكم بالاستئناف رقم 82 لسنة 2 ق لدى محكمة استئناف طنطا «مأمورية شبرا الخيمة» والتى قضت بتاريخ 27 من يوليو سنة 2005 بتأييد الحكم المستأنف. طعنت الطاعنة فى هذا الحكم بطريق النقض، ناعية عليه القصور فى التسبيب.
وفى بيان ذلك تقول إنها قدمت مستندات رسمية قاطعة للتدليل على عدم أمانة المطعون ضده نفساً ومالاً وهى صورة رسمية من الحكم الصادر فى الدعوى رقم 7732 لسنة 2003 جنح مستأنف جنوب بنها والمقضى فيها بحبس المطعون ضده سنة مع الشغل مع الإيقاف لتبديده منقولات الزوجية وصورة طبق الأصل من الحكم الصادر فى الدعوى رقم 27610 جنح ثان شبرا الخيمة والمقامة من المطعون ضده قبل الطاعنة بتهمة البلاغ الكاذب والمقضى فيها بالبراءة وصور ضوئية لأحكام حبس صادرة قبل المطعون ضده عن متجمد نفقة لها إلا أن الحكم المطعون فيه التفت عن تلك المستندات وأهدر دلالتها، الأمر الذى يعيب الحكم بما يستوجب نقضه.
وقد استجابت محكمة النقض لهذا النعى، وأصدرت حكمها سالف الذكر (راجع: نقض 14 أبريل سنة 2015م، الطعن رقم 658 لسنة 75 القضائية أحوال شخصية).وفيما يتعلق بما أطلق عليه «حق التأديب»، وفى قرارها الصادر فى غرفة المشورة، بتاريخ الثانى عشر من يناير 2016م، تقول المحكمة: «لما كان من المقرر - فى قضاء هذه المحكمة - أنه وإن كانت الطاعة حقاً للزوج على زوجته إلا أن ذلك مشروطاً بأن يكون الزوج أميناً على نفس الزوجة ومالها، فلا طاعة عليها إن تعمد مضارتها بأن أساء إليها بالقول أو بالفعل أو استولى على مال لها دون وجه حق. وإن حق التأديب الشرعى المعبر عنه بالضرب متروك تقديره لمحكمة الموضوع.
لما كان ذلك، وكان الحكم المطعون فيه قد أقام قضاءه بتأييد الحكم المستأنف بعدم الاعتداد بإنذار الطاعة على ما استخلصه من بينتها الشرعية الصحيحة أمام محكمة أول درجة من عدم أمانة الطاعن على المطعون ضدها نفساً لتعديه عليها بالضرب والسب وهو من الحكم استخلاص موضوعى له أصله الثابت فى الأوراق ويؤدى إلى النتيجة التى انتهى إليها ويكفى لحمل قضائه وفيه الرد الضمنى المسقط لكل حجة مخالفة له، ومن ثم فإن ما يثيره الطاعن بأسباب طعنه يكون محض جدل موضوعى فى تقدير محكمة الموضوع لأدلة الدعوى مما لا تجوز إثارته لدى هذه المحكمة ويضحى الطعن غير مقبول» (محكمة النقض، دائرة الأحوال الشخصية، القرار الصادر بتاريخ 12 يناير سنة 2016م، الطعن رقم 731 لسنة 67 قضائية، أحوال شخصية).
وبإمعان النظر فى الأحكام الثلاثة سالفة الذكر، نجدها تتعلق جميعاً بحق الطاعة المقرر للزوج على زوجته، من حيث حدود ونطاق وشروط هذا الحق، والأثر القانونى فى حالة مخالفته. ويبدو واضحاً من الحكمين الأولين أن المحكمة قد استنكرت قيام الزوج باتهام زوجته واستعداء السلطة العامة ضدها أو التبليغ عنها، ولا سيما إذا كانت الجريمة المزعومة ماسة بالزوج نفسه، كما هو الشأن فى سرقة منقولات الزوجية.
كذلك، قررت المحكمة أن لا طاعة للزوج على زوجته إن هو تعمد مضارتها بأن أساء إليها بالقول أو بالفعل أو استولى على مال لها دون وجه حق.إن المشرع الجنائى قد قرر قيد الشكوى فى جرائم السرقة بين الأزواج أو بين الأصول والفروع. والغاية من وراء ذلك هى الحفاظ على الأواصر العائلية التى تربط بين المجنى عليه والجانى.
واستناداً إلى العلة ذاتها، اتجهت بعض أحكام القضاء إلى مد نطاق تطبيق قيد الشكوى إلى جريمة التبديد أو خيانة الأمانة بين الأزواج وجريمة النصب، لوقوعها كالسرقة إضراراً بمال من ورد ذكرهم بالنص.
وكذلك، قرر المشرع قيد الشكوى فى جريمة زنا الزوجة. والحكمة التى تغياها الشارع من غل يد النيابة العامة فى تحريك الدعوى الجنائية فى جريمة الزنا هى الحفاظ على مصلحة العائلة وسمعتها. فإذا لجأ الزوج إلى تقديم الشكوى ضد زوجته، فإن ذلك يعبر عن عدم اكتراثه بعلاقة الزوجية، ولا يجوز له بالتالى أن يدعى لنفسه واجب الطاعة على زوجته.