كان على العالم أن ينتفض ويهب من غفلته فوراً، لكنه لم يفعل بعد. أمس الأول فاجأتنا صحيفة «جارديان» البريطانية بتحقيق استقصائى من النوع المعتبَر الثقيل المدوى. شركة إسرائيلية مسجلة ولها مقر ولديها موظفون وأوراق ووثائق وتعمل بشكل علنى ثبت أنها تعمل فى مجال متفرد، ألا وهو «التضليل»! نعم مهمة الشركة التضليل ولكن باحترافية.التضليل المحترف يحمل اسم «فريق خورخى» أو «خلية خورخى» (وخورخى هو الاسم الكودى لمسئول الشركة تل حنان) وأدواته ومنصاته هى الذكاء الصناعى.
ضمن أعمال وأنشطة الشركة الكثيرة والعديدة التى تم الكشف عنها فى التحقيق الذى اشتركت فيه مجموعة من الصحفيين وعملوا على مدار أشهر طويلة فى سرية تامة نجاحهم فى التدخل وتوجيه سير الانتخابات فيما لا يقل عن 33 دولة! ليس هذا فقط، بل تقوم الشركة -بحسب طلب العملاء فى جميع أنحاء العالم- بإنشاء ملايين الحسابات على منصات الـ«سوشيال ميديا»، وهى الحسابات الوهمية التى تُكتب وتغرد وتعلق وتشارك وتناقش كما يفعل المستخدمون البشر تماماً على مختلف المنصات بشتى اللغات.
كما تفاخر الشركة بقدرتها على قرصنة حسابات البريد الإلكترونى وتلجرام والوصول لأدق وأخطر التفاصيل الشخصية للمستخدمين، بدءا بالحسابات البنكية ومروراً بتركيبة العلاقات الشخصية والاجتماعية وانتهاء بالتوجهات والانتماءات الفكرية والأيديولوجية.أيديولوجياً، التأثير على الجموع الغفيرة الرابضة على منصات الـ«سوشيال ميديا» أمر بالغ الخطورة والأهمية.
وتقنياً الأمر لا يحتاج سوى إلى خبراء فى الذكاء الصناعى قادرين على تلبية احتياجات العميل، فإذا أراد العميل أن تتوجه الجموع الغفيرة صوب اليمين، يتم توجيهها بخفة التقنيات الرقمية ورشاقة الإمكانات والخوارزميات ولياقة الموارد الإلكترونية بالإضافة إلى عقول بشرية مدربة.
خذ عندك مثلاً، عزيزى القارئ، ما تمتلكه «خلية خورخى» من مخزن هو عبارة عن فهرس لجميع الأجناس والأعراق والجنسيات والأشكال والألوان، الوجوه لأشخاص حقيقيين مصدرها الإنترنت، لهم ألقاب وصفات وأسماء يتم تشكيلها بناء على قاعدة بيانات بالغة التعقيد والثراء، فتجد مثلاً شخصاً يرسل لك طلب صداقة، شكله «مصرى» وتعليقاته مصرية صميمة، وقائمة أصدقائه شبيهة بقائمتك، والأفكار التى يكتبها قريبة مما تكتب، فلِمَ لا تقبل طلب صداقته، وتسعد بمتابعته، ثم تبدأ فى الدق على زر الـ«شير» لصور وفيديوهات وتدوينات يكتبها لينقلها عنك زيد ثم عبيد وهلم جرا.
وتستيقظ ذات صباح وأنت تعتقد أن العالم كله من حولك يعتنق فكراً بعينه أو أن المنطق يرجح كفة ما، بينما الحقيقة أن «خورخى» هو من صنع هذا الفكر وفبرك هذا المنطق!ومن منطلق فكر الشركة الذى يجمع العديد من الأنشطة والتخصصات «الناجحة» و«الناجعة»، فإنها تحترف كذلك التجسس على الشخصيات العامة عبر التنصت والقرصنة. بمعنى آخر، وارد أن تمتلك الشركة المحتويات الكاملة لمكالمات ومراسلات كبار الشخصيات، وهو المحتوى الذى يباع ويشترى، ويستخدم كمادة خام لمزيد من السيطرة على الكوكب.
الكوكب الواقع دون أدنى شك فى قبضة المهيمنين على العوالم الافتراضية لم يعِ بعد أن الجانب الأكبر من سكانه لم يعودوا مالكين أو مسيطرين أو قادرين على توجيه أفكارهم بأنفسهم، يعتقدون أنهم يفعلون ذلك، لكن هناك مَن يفعل ذلك بالنيابة عنهم وفى غفلة منهم وبطريقة ناعمة ولكن مؤكدة.
المؤكد أن العالم الواقع فى قبضة الذكاء الصناعى ليس كالعالم الذى كان واقعاً فى قبضات أخرى بشرية.
والمؤكد أن التعامل مع هذا الواقع الجديد يحتاج لما هو أكثر بكثير من أن يتقدم أحدهم بطلب لإغلاق منصة «سوشيال ميديا» لأنها تروج لأفكار لا تعجبه أو لمعاقبة مدونين أو مؤثرين، لأنهم يهدمون الأخلاق أو للسرد الإنشائى عن أضرار الإنترنت.
الوعى هو السلاح الوحيد، والتربية المعرفية والثقافة العنكبوتية لا غنى عنهما لمن يبحث عن النجاة. المستخدم الذى يعى أن العالم الافتراضى الذى يغرق فيه عامر بخبراء التوجيه وأباطرة التزييف وعظماء القرصنة يختلف عن المستخدم الغارق فى «مياه البطيخ». وكلاهما له حرية الاختيار.
على الدنيا أن تنقلب رأساً على عقب جراء هذا التحقيق الاستقصائى المبهر. ولكنها على الأرجح لن تفعل لأسباب كثيرة يطول شرحها. ولكن تجب الإشارة هنا إلى ما بُحّت أصواتنا فى التنبيه إليه والتحذير منه عقب أحداث 2011 و2013 من الكتائب الإلكترونية والميليشيات العنكبوتية لـ«مجاهدى الإخوان» التى احترف أفرادها الضحك على الذقون بالذقون، لكن التنبيهات كثيراً ما كانت تقابل بالسخرية أو الاتهامات الجوفاء.وفى سياق آخر تماماً، أحيى وأشكر وأبارك وأصفق وأحترم صورة الكلاب الصغيرة التى أمضت ليلتها فى الشارع محتضنة أحدها الذى مات.
مات الجرو المسكين لكن موته كشف عن مصور عظيم القلب والعدسة اسمه جاسر أحمد. التقط المشهد الذى هو بألف كلمة وشعور وإحساس. تحية خالصة لقلب جاسر وعينه، وتحية كبيرة للزميل الإنسان قبل أن يكون رئيساً للتحرير أحمد الخطيب الذى رأى فى اللقطة ما يراه البشر من أصحاب القلوب الكبيرة.