«أيقونة» الأسرى

جيهان فوزى

جيهان فوزى

كاتب صحفي

ترجّل الفارس تاركاً سيرة ومسيرة مشرفة، ووصية لزملائه المعتقلين يكملون بها مشوار النضال ضد محتل غاشم. انطفأ الجسد مثلما انطفأت الأنوار الباهتة داخل زنازين الأسرى الفلسطينيين فى سجون الاحتلال الإسرائيلى، حداداً على روحه التى ارتقت بعد صراع مرير مع المرض، خلال اعتقاله لعقود ممتدة فى سجون الاحتلال.

أعلنت حالة الحداد والإضراب العام فى الضفة الغربية وقطاع غزة على روح أيقونة الأسرى الشهيد الأسير «ناصر أبوحميد»، خرجت المظاهرات الغاضبة والمنددة باحتلال غاشم تجاوز كل المعايير والأعراف الأخلاقية الدولية، موته أحيا الوجع الكامن فى ملف الأسرى والمعتقلين فى السجون.

فلم يشفع له مرضه بالإفراج الصحى، ولا تلقى العلاج المناسب لحالته مثل كل الأسرى الذين يعانون عنت الاحتلال وجبروته وقسوته، يعانى الأسرى فى سجون الاحتلال من سوء الظروف الصحية وقسوة التعذيب والتنكيل، ولم تستطع منظمات حقوق الإنسان أن تضغط بشكل جدى لتحسين ظروفهم المعيشية.

خاضوا إضرابات طويلة عن الطعام منها معركة «الأمعاء الخاوية» التى شارك فيها المعتقلون الفلسطينيون فى كل السجون الإسرائيلية احتجاجاً على الظروف اللا إنسانية داخل السجون، وتحت تأثير الضغط الدولى رضخت إسرائيل لبعض مطالب الأسرى، ثم ما لبثت أن عادت لسياستها الوحشية أكثر ضراوة وقسوة.

وخاض العديد من الأسرى الإضرابات الفردية، منهم من استشهد ومنهم من كان على شفا الموت، رفضاً لممارسات إدارة السجون والمعاملة القاسية التى يواجهونها، من العزل الانفرادى، إلى التعذيب، إلى الإهمال المتعمد فى تلقى الخدمات الصحية والطبية، غير أن سلطات الاحتلال كانت تزيد من وتيرة الضغط والتعنت ضد الأسرى، بدلاً من تحسين ظروف سجنهم طبقاً للمعاهدات الدولية، ضاربة عرض الحائط بالانتقادات الموجهة إليها، نافية بوقاحة المحتل تجاوزها فى حق المعتقلين السياسيين!!.

لقد ضرب المعتقلون الفلسطينيون فى سجون الاحتلال أمثلة رائعة فى الصمود والتصدى للاحتلال، وسطروا بطولات أذهلت السجانين، بقوة التحمل والتحدى. وكانت الرسالة التى وجهها «ناصر أبوحميد» باسم الأسرى أثناء إضرابهم الشهير عام 2017 تعبر عن روح نُقشت بالمقاومة والصمود، بعد 34 يوماً من الإضراب جاء فيها: «ما زلنا نطرق أبواب الزنازين من «شطة» إلى «عسقلان»، ومن «نفحة» إلى «النقب»، ومن «الجلمة» إلى «أيلون»، ومن عزل «مجدو» إلى «هداريم» و«السبع» و«نيتسان»، جيش باسل من خيرة أبناء هذا الشعب، نصرخ مكبّرين ومهلّلين ومتحدّين للسّجان وبطشه وإجرامه الوحشى.

34 يوماً وما زلنا نتنفّس الحرّية والكبرياء، نسير إلى الموت مبتسمين، ونتربّع على بطانية سوداء هى كل ما تركوه لنا حول كأس ماء وقليل من الملح، نغنّى للوطن ولربيع الانتصار القادم، عن أجسادنا لا تسألوا فلقد خانتنا وتهاوت منذ أيام، أما عن أرواحنا وإرادتنا نطمئنكم فهى بخير، صامدون كما الصّخر فى عيبال والجليل، أقسمنا اليمين على أن نواصل حتى النّصر أو الشهادة، وعاهدنا أرواح الشهداء ألا تكون هذه المعركة إلا شمعة انتصار نضيئها بأرواحنا وأجسادنا على درب الحرية والاستقلال».

كان الشهيد الأسير «ناصر أبوحميد» مثلاً يحتذى للأسرى والمعتقلين فى السجون الإسرائيلية، خاض نضالاً متواصلاً ضد قمع وإرهاب الاحتلال، بدأ وضعه الصحى بالتدهور بشكل واضح منذ شهر أغسطس 2021، حيث بدأ يعانى من آلام فى صدره، إلى أن تبين أنه مصاب بورم فى الرئة، وتمت إزالته وإزالة قرابة 10 سم من محيط الورم، ليعاد نقله إلى سجن «عسقلان»، ما أوصله لهذه المرحلة الخطيرة، ولاحقاً وبعد إقرار الأطباء بضرورة أخذ العلاج الكيميائى، تعرض مجدداً لمماطلة متعمدة فى تقديم العلاج اللازم له، إلى أن بدأ مؤخراً بتلقيها بعد انتشار المرض فى جسده.

الأسير «أبوحميد» كان محكوماً بالسجن المؤبد سبع مرات و(50) عاماً.

وتعرض للاعتقال الأول قبل انتفاضة الحجارة عام 1987 وأمضى أربعة أشهر، وأعيد اعتقاله مجدداً وحُكم عليه بالسجن عامين ونصف العام، وأُفرج عنه ليعاد اعتقاله للمرة الثالثة عام 1990، وحكم عليه الاحتلال بالسجن المؤبد، أمضى من حكمه أربع سنوات حيث تم الإفراج عنه مع الإفراجات التى تمت فى إطار المفاوضات، إلا أن الاحتلال أعاد اعتقاله لاحقاً وحكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة.

ولأن النضال لدى «ناصر» طبيعة وليس عارضاً، فهو من عائلة مناضلة تنتمى لشهداء ومعتقلين، هو شقيق الشهيد عبدالمنعم أبوحميد، وشقيق الأسير «نصر» المحكوم بخمسة مؤبدات، و«شريف» المحكوم بأربعة مؤبدات، و«محمد» المحكوم بمؤبدين وثلاثين عاماً، و«إسلام» المحكوم بمؤبد وثمانى سنوات.

هدم الاحتلال منزل عائلته خمس مرات ومنعت والدته من زيارته لسنوات، وقد أُطلِقَ على والدته لقب «خنساء فلسطين» و«سنديانة فلسطين»، وقد توفى والده وهو داخل السجن، ولم يتمكن من المشاركة فى تشييع جثمانه.

«ناصر أبوحميد» من المناضلين الذين آمنوا بأن الأرض تنادى أبناءها، فاستجابوا لندائها دون أن يفكروا ولو للحظة بما سيخسرونه من أعمارهم.