إعادة نظر
في لسان العرب: "العَجْزُ نقيض الحَزْم".
وفي المعجم الوسيط: "المرأةُ عجِزت عُجُوزاً: كَبِرَت وأسَنَّت... وعجز عن الشيء عَجْزاً، وعَجَزاناً: ضعف ولم يقدر عليه... وعجز فلانٌ عن الشيء عَجْزاً: لم يكن حازِماً... وعجز عن العمل: كبر، فهو عاجز... عَجَّزَت المرأةُ: صارت عجُوزاً. وعَجَّزَ فلاناً: نسبه إلى العجز والخُرْق. وعَجّزه: ثبَّطَه وعوَّقه".
من هو العجوز؟ أو بالأحرى من هي العجوز؟ فالعجوز- لغة- لفظة تطلق على المرأة كبيرة السن. ولكن ما هو مقياس كبر السن؟ هل هو سن التقاعد؟ وإن كان، فهل هذا يعني أن هذا التقييم للمرحلة العمرية يختلف من مجتمع لآخر أم هو سن الشيخوخة؟ وماهي الشيخوخة؟ هل هي السبب وراء تراكم الأمراض المرتبطة بالتقدم في العمر؟ أم أنها نتيجة لتراكم تلك الأمراض؟ هل الشيخوخة سبب للأمراض أم نتيجة لها؟ّ ومن جانب آخر: هل عدد المسنين في المجتمع يخبر الكثير عن واقعه أو مستقبله؟ هل زيادة عدد المسنين هو دليل على المجتمع الشائخ؟
دعنا نسأل السؤال الأهم: ما أهمية تلك الأسئلة؟ ولماذا نطرحها الآن؟
دعنا نتفق أولا على حقيقتين علميتين: أولاهما هي أننا جميعًا نولد بعدد ثابت من الخلايا العصبية، وهو قرابة المائة مليون خلية عصبية، أكثر أو أقل، لكنه عدد ثابت، فالخلايا العصبية لا تستحدث ولا تنقسم، أما المعلومات والخبرات والذكريات والمهارات والتجارب فهي تتخزن في المخ على هيئة "وصلات عصبية" بين تلك الخلايا وبعضها، وكلما مررت بتجربة - مهما كانت بسيطة أو بدائية-؛ تكونت وصلة عصبية إضافية بين خلاياك المخية تضيف إلى حصيلة تجربتك الذهنية المتفردة. المفاجأة هي أن أكبر عدد من تلك الوصلات يتكون خلال أول عامين من عمرك كطفل! صدق أو لا تصدق! وهنا يكمن منطق المدافعين عن التعليم المبكر للأطفال عن طريق الألعاب والحث على تعريض الطفل للخبرات الحسية والبصرية والحركية المختلفة.
الحقيقة الثانية هي قائمة الأمراض العصبية الإدراكية المرتبطة بالشيخوخة، وعلى رأسها العته أو الخرف أو ما يعرف طبيًا باسم Senile Dementia، وهو مرض إكلينيكي حقيقي يرتبط شرطيًا بالتقدم في العمر، وفيه يفقد المريض قدراته العقلية وذاكرته بالتدريج، وكأنما تنكسر تلك الوصلات التي تكونت طوال حياته في سنوات عمره الأخيرة. فقد يفقد مريض خرف الشيخوخة كثيرًا من تجاربه ونتائجها؛ فيقع ببساطة في أخطاء سبق له أن تعلم كيفية تلافيها، فيكرر أخطاءه في الوقت الذي يُظن منه أنه الأكثر خبرة وحكمة في مجاله.
وهنا يظهر التساؤل: هل التقدم في العمر يعني دائمًا الحكمة والخبرة؟ هل بالضرورة أن يعني ضعف المرونة الذهنية وفقدان المهارات العقلية التي يُعتقد ترسّخها؟ بل والسؤال الأهم: كيف نقرر أن أحد أجدادنا هو الأكثر خبرة والأحرى بالمشورة، وأن الآخر هو الأولى بتقديم العون والعناية؟ هل هو العمر؟ هل سن الستين - باعتباره عمر التقاعد في مصر - هو الحد الفاصل؟ أم أنها مسألة فردية تختلف من شخص لآخر ومجتمع لآخر وتحكمها متغيرات مجتمعية عدة؟
بالطبع المسألة معقدة، شأنها شأن أي تقييم عصبي إدراكي أو نفسي سلوكي يخضع له المرء على مدار مراحله العمرية وباختلاف عوامله المجتمعية المحيطة. لكن دعنا نسأل أنفسنا: هل نظام الإحالة للتقاعد يحتاج إلى إعادة نظر؟ هل كل من بلغ الستين ينبغي أن يترك مقعده الحكومي شاغرًا لمن هو أصغر منه ربما بعام واحد؟ هل كل القطاع العريض من الموظفين في العقد الخامس والسادس من العمر هم الأجدر بمقاعدهم لمجرد كونهم لم يتخطوا الستين؟ هل نظام الترقي الوظيفي الخاضع للأقدمية هو الأولى في تولي المناصب الإدارية والقيادية والإشرافية، بل والتعليمية في الجامعات مثلاً؟
دعنا أولاً نلقي نظرة سريعة على التركيبة السكانية في العقود الأخيرة في العالم عمومًا وفي مصر خصوصًا. وفقًا لما تعلنه منظمة الصحة العالمية، ستجد أن العمر المتوقع في جميع أنحاء العالم ارتفع من 46 عامًا إلى 68 عامًا خلال الفترة ما بين عام 1950 وعام 2010، ويتوقع أن يزيد ليبلغ 81 عامًا بحلول نهاية هذا القرن. وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، سيزيد عدد الأشخاص الذين تجاوزوا الستين عن عدد الأطفال في العالم في عام 2050. وهناك الآن ما يربو على 700 مليون نسمة تزيد أعمارهم عن 60 عامًا. وبحلول عام 2050، سيكون هناك أكثرمن 20% من مجموع سكان العالم، تبلغ أعمارهم 60 عاما أو أكثر.
وفي مصر، توقع الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ارتفاع نسبة المسنين إلى 11.6% عام 2030، مقابل نحو 7.3% عام 2011، أي نحو 5.8 مليون مصري. وبلغ عدد المسنين المشتغلين 1.1 مليون مسن عام 2011.
بالنظر إلى الوضع الاقتصادي المصري، وحقيقة تزايد أعداد المسنين وبالتالي زيادة أعداد المتقاعدين، سترى ما يعنيه ذلك من زيادة في مبالغ المعاشات التي قد يكون بإمكاننا تحويلها إلى رواتب مقابل إضافة فعلية يحققها الفرد المسن للمجتمع بدلاً من عضويته الدائمة في قهوة المعاشات. إننا بحاجة حقيقية لإيجاد نظام تقييم عضوى وذهني ونفسي وسلوكي لكل من تخطي مرحلة الشباب لكي يتم توظيف خبراته على النحو الأمثل، الذي قد لا يكون بالضرورة هو المنصب الإداري أو القيادى أو الإشرافي، ربما يكون استحداث مناصب استشارية استرشادية في الهيئات الحكومية هو أكثر ما يعود بالنفع على الجميع، استغلالاً لخبرات ذوي الخبرة بغض النظر عن سنهم الذي تخبره شهادات الميلاد، بل عمرهم الذهني والعقلي، ومن جانب آخر ترك عجلة الإدارة والقيادة وما تحتاجه من علم ومرونة لذوي الأهلية من الشباب، وتتغير الصورة الذهنية المرتبطة بذوي الشعر الأشيب خلف المكاتب الضخمة، إلى الشاب النابه الذي لا تراه إلا في قلب فريقه في ميدان عمله، متابعًا ومشجعًا، لا يستتر خلف أبواب مكتبه ويفصله عن موظفيه فريق آخر من الموظفين!
الأمر يستحق إعادة النظر.