مصر الحلوة في أدب نجيب محفوظ.. صناعة محلية محترفة روجت لـ«أم الدنيا» عالميا

كتب: محمد أسامة رمضان

مصر الحلوة في أدب نجيب محفوظ.. صناعة محلية محترفة روجت لـ«أم الدنيا» عالميا

مصر الحلوة في أدب نجيب محفوظ.. صناعة محلية محترفة روجت لـ«أم الدنيا» عالميا

كانت مصر همه الشاغل، فكتب عنها وتبحر، حتى صار رمزا لكل ما هو مصري، بضحكته المجلجلة، وجلساته المؤنسة، وكتاباته التي تسترعي انتباه العالم العربي كله، فهو حينما يمسك قلمه يقف الجميع على أطراف أصابعهم في انتظار ما سيجود به، وما خاب ظنهم يوما. واليوم في ذكراه الـ16؛ نعيد قراءة مصر الجميلة الحُلوة بعيني أديب نوبل نجيب محفوظ، من خلال كتاباته ومن خلال آراء رفاق له عاشوا معه ولازموه.   

«مصر الحلوة» في كتابات محفوظ

وصف مصر وعاصمتها القديمة في إحدى بواكير أعماله «رادوبيس» الصادرة عام 1943، كما يصف المُتَيم حبيبته فقال: «كانت آبو عاصمة مصر، يقوم بنيانها الشامخ على دعائم من الصوان، تؤلف بينها الكثبان الرملية، وقد غشاها النيل بطبقات من طمية الساحر، بثت فيها الخصب والخير العميم، وأنبتت أرضها السنط والتوت والنخيل والدوم وكست سطحها البقول والخضروات، والبرسيم، ونشرت فيه الكروم والمراعي، والجنان تجري من تحتها الأنهار، وترعاها القطعان، يطير في سمائها الحمام والطير، ويحمل نسيمها شذا العطر والأزهار، وتتجاوب في جوها أغاريد البلابل والأزهار».

كما وصف مصر ونيلها قديما في روايته «كفاح طيبة» الصادرة عام 1944 كأجمل ما يكون في افتتاحية الرواية، بقوله «كانت السفينة تصعد في النهر المقدس، ويشق مقدمتها المتوج بصورة اللوتس الأمواج الهادئة الجليلة، يحث بعضها بعضا منذ القدم كأنها حادثات الدهر في قافلة الزمان، بين شاطئين انتشرت على أديمهما الثرى، وانطلق النخل جماعات، وترامت الخضرة شرقا وغربا، وكانت الشمس تعتلي كبد السماء.. انظر.. هذه طيبة.. فنظروا جميعا إلى حيث يشير الرجل فرأوا مدينة كبيرة يحيط بها سور عظيم، بدت خلفه رؤوس المسلات عالية كأنها عمد ترفع القبة السماوية».

وفي رواية «خان الخليلي» الصادرة عام 1946 وصف حي الحسين بأجمل ما يكون: «أنت لا تدري عن حي الحُسين شيئا، فها هنا ألذ طعمية وأشهى فول مدمس، وأطعم كباب وأحسن نيفة وأمتع كوارع وأنفس لحمة راس، هنا الشاي المنعدم النظير والقهوة النادرة المثال، هنا نهار دائم وحياة متصلة ليلا ونهارا.. هنا ابن بنت رسول الله وكفى به جاراً ومُجيرا».

ولم يغفل عن الإسكندرية بل رأى فيها الغاية، كأنه مسافر عاد بعد غياب طويل إلى حضن أمه في رواية «ميرامار» الصادرة عام 1967، فقال: «الإسكندرية أخيرا! الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقبل الذكريات المبللة بالشهد والدموع».

وكما وصف مصر المكان، وصف مصر الإنسان، أو الإنسان المصري، فلم يغفل في أعماله عن بلورة الشخصية المصرية بكل جوانبها خصوصا رواية «حضرة المحترم» الصادرة عام 1975 والتي مثل فيها محفوظ المواطن المصري بإجلاله لوظيفته كعمل يبنى من خلاله الفرد والدولة، ومراحل صعوده من الصفر في السلم الوظيفي وحياته الأسرية، والتي أصدرها بعد خروجه على المعاش. 

أما رواية «الباقي من الزمن ساعة» الصادرة عام 1984 وبطلتها «سنية الخضراء» والتي تمثل مصر والمهتمة بتاريخها الشخصي وفخرها به وثباتها في وجه المحن، فعلى مدى أربعين عاما هي زمن أحداث الراوية تبقى سنية متماسكة تشارك في الأحداث، وتلقي بالتعليقات الحكيمة. وحرصها على عدم بيع منزلها الذي ورثته عن أبيها في حلوان، وحرصها طوال الأحداث على السعي لتجديد البيت، وكأن البيت نفسه رمزا لمصر المكان، فكأن «محفوظ» يضع مصر الجميلة الحلوة على ناصية قلمه ولا رغبة له أن يحيد عن ذلك.

محفوظ وصورة مصر

يقول الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب الحديث بجامعة القاهرة، والناقد الأدبي، إن مصر ظلت شاغل نجيب محفوظ الأكبر، عبر مسيرته الإبداعية الطويلة، وارتبطت رؤيته لها برؤيته للإنسانية كلها.

ويرى أنّ اهتمام نجيب محفوظ بمصر تحقق خلال مستويات كثيرة جدا في أعماله، ابتداء من اختيار عالمه الروائي نفسه، حيث بدأ هذا العالم، بجانب القصص القصيرة التي كتبها في فترة مبكرة، بالكتابة عن تاريخ مصر البعيد، وتمثل هذا في رواياته الفرعونية الثلاث المبكرة؛ ثم انتقل ليكتب عن تاريخ مصر الذي يراه ويعايشه، فاختار التركيز على تفاصيل محلية تماما، تخص الحياة المصرية في بيئة نموذجية من بيئاتها التي تختصر هذه المحلية مثل حي الجمالية، أو حي الحسين، الذي يعبر عن الحياة المصرية الخاصة، كما أن تاريخ هذا الحي نفسه مفتوح على عصور قديمة وجديدة تحيا معا، وبذلك التقط محفوظ بعدا مهما في الهوية المصرية أو التكوين المصري الخالص، وقد وضح هذا في روايات مثل «زقاق المدق» و«خان الخليلي» و«الثلاثية»، حسبما أوضح «حمودة» لـ«الوطن».

ويضيف أستاذ الأدب الحديث، أنّ اهتمام محفوظ بأبعاد الشخصية المصرية تنامى خلال أعمال كثيرة له، انطلقت من الاهتمام بأبعاد الهوية المصرية، وبالتفاصيل المحلية تماما، لكنها تصل بين قضايا مصر وقضايا الإنسانية كلها، وتتطلع إلى مستقبل مشرق في مصير مأمول.

كذلك كان من ضمن اهتمام محفوظ بالهوية المصرية انطلاقه دائما من الاحتفاء بمعنى «التعدد» الذي صاغ هذه الهوية عبر تاريخها سواء التعدد على مستوى الأديان والثقافات والأعراق، وهذا التعدد واضح جدا في أغلب كتابات نجيب محفوظ، وقد قاد هذا التعدد إلى قيم عظيمة في المجتمع المصري، على رأسها قيمة «التسامح» واحترام التنوع والاختلاف، حسب قول «حمودة».

ويشير إلى أنّ محفوظ اهتم أيضا بتاريخ مصر خلال التوقف عند حكامها، منذ عصر الأسرات القديمة حتى زمن محفوظ نفسه، وهذا واضح في كتابه «أمام العرش»، لكنه اهتم كذلك طبعا بتاريخ الشعب المصري، مضيفا أن هناك عدد كبير من أعماله وضح فيه هذا الاهتمام، ومن أوضح هذه الأعمال روايته كبيرة القيمة «ملحمة الحرافيش».

ويتابع «حمودة» أن صورة مصر في أعمال محفوظ اقترنت دائما بأمل كبير في تخطي المشكلات التي واجهتها في فترات متعددة، وقد توقف محفوظ عند هذه المشكلات وكشف أبعادها ليسهل تجاوزها، وقد وضحت أيضا في الصورة التي جسدها نجيب محفوظ لمصر أبعاد جميلة كثيرة، ارتبطت بقيم أساسية إيجابية تماما في الشخصية المصرية، وبذلك كانت هناك دائما صورة مأمولة لـ«مصر الحلوة» ظل محفوظ يتطلع ويرنو إليها دائما، منطلقا من تفاؤل أبديّ ظل يلازمه طوال مسيرته الإبداعية وطوال حياته كلها.

القعيد: محفوظ ارتبط بمصر ارتباطا أبديا

ويرى الكاتب والروائي، يوسف القعيد، أن محفوظ ارتبط بمصر ارتباطا أبديا جسدا وروحا وصل إلى حد عدم رغبته في مغادرتها إلا مجبرا فمرة إلى لندن للعلاج ومرة إلى اليمن بطلب من الرئيس جمال عبدالناصر، «كان يستطيع السفر إلى الدول المختلفة، إلا أنه بقى فيها محبا».

ويضيف أن ارتباطه بمصر جعله يعبر عنها تعبيرا كاملا، في كل أعماله الأدبية سواء كانت روايات أو قصص قصيرة، أو عروض مسرحية أو ثلاثيات ضخمة، أو حتى في مقالات صحفية، مشيرا إلى أنه في كل ما كتب كان منطلقا من التعبير عن مصر والإنسان المصري وما جرى له طوال سنوات عمره الطويلة، حسب قوله لـ«الوطن».

ويؤكد «القعيد» أن كل روايات محفوظ تناولت الشخصية المصرية ومن الصعب تحديد رواية واحدة يمكن أن نقول من خلالها أنه مثل بها الشخصية المصرية أو مصر، «نجيب كان مشدودا حتى في مقالاته الصحفية التي لم تجمع في كتب، لمصر والشخصية المصرية والإنسان المصري بتعبير جميل ودقيق يدفعك لحب الأدب».

وعن التكريم الأمثل لمحفوظ، أوضح أنه يحتاج إلى عمل فني يمثل حياته لمكانته الكبيرة، مشيرا أن مصر أقامت متحفا له في الجمالية وهذا ما لم يحدث مع أي كاتب آخر.


مواضيع متعلقة