دور مراكز البحوث فى الوطن العربى
عقد مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية مؤتمراً يوم الأربعاء 10 ديسمبر الجارى بعنوان: «المراكز البحثية ودورها فى دعم السياسة العامة»، وكان ذلك على هامش احتفال المركز بمرور عشرين عاماً على تأسيسه، وقد صار خلالها أحد أكبر المراكز البحثية على مستوى الخليج والوطن العربى.
موضوع المؤتمر بالغ الأهمية، فهو يناقش الدور المنوط بمراكز البحث فى التأثير على عملية رسم السياسة العامة، وهذا الدور يتنامى باطراد فى ظل تعقد المشكلات وتعدد أبعادها على نحو يوجب المشورة وتقديم الرأى من العديد من أهل الخبرة والاختصاص. يضاف إلى ذلك أن التطور الديمقراطى يجعل المجتمع المدنى شريكاً فى عملية صنع القرار، وهكذا بتنا نجد أن العديد من مشروعات القوانين يطرح على مؤسسات المجتمع المدنى لأخذ ملاحظاتها عليها وعرضها على صانع القرار ليعيد إدماجها فى صلب المشروعات، وبذلك تتعدد دوائر التشاور ويتم إنضاج السياسات العامة على نار هادئة.
رصد المؤتمر حركة التطور التاريخى للمراكز البحثية على مستوى الوطن العربى منذ أن كانت مراكز تابعة مباشرة للدولة، مروراً بوضعها كوحدات ذات طابع خاص فى إطار الجامعات والمعاهد المختلفة، وانتهاءً بدخول منظمات حقوق الإنسان والمرأة والتنمية على الخط. وأوضحت المناقشات أنه فى كل مرحلة من المراحل الثلاث السابقة كانت ثمة إضافة للعمل البحثى، فإشراف الدولة المباشر على بعض المراكز وفر لها التمويل والإمكانيات ووجه المشروعات البحثية إلى مجالات وقضايا قد لا تكون موضع اهتمام المراكز الخاصة بالضرورة. ونشأة الوحدات البحثية ذات الطابع الخاص فى قلب الجامعات وفر لها الحاضنة الطبيعية وتكامل مع وظيفة الجامعات فى إنتاج العلم واستخدام أدواته. وتأسيس قطاعات بحثية داخل منظمات المجتمع المدنى أتاح للباحثين درجة عالية من الاستقلالية التى لا تتوفر المصداقية دونها. لكن الملاحظة محل الاعتبار هى أنه رغم انتشار المراكز البحثية بأشكالها المختلفة يعد ظاهرة صحية، إلا أنه فى غياب الرؤية الاستراتيجية عن بعض تلك المراكز، واعتمادها فى تصميم أولوياتها على احتياجات جهات التمويل وليس على القضايا الملحة فعلاً، يتحول هذا التعدد فى جهات البحث إلى التنافس على الجمهور والموضوعات والتمويل. وضرب البعض مثالاً على ذلك باشتغال العديد من المراكز البحثية فى مرحلة معينة بقضايا الإصلاح السياسى والتطور الديمقراطى، وانتقالها فى مرحلة لاحقة للتركيز على قضايا التطرف والإرهاب، وفى المقابل تغيب قضايا بالغة الأهمية، تتعلق مثلاً بالزيادة السكانية وأثرها على التنمية أو بمخاطر التفكك الذى يتهدد الدولة الوطنية، عن البرامج البحثية لتلك المراكز.
فى الحديث عن الدور الاستشرافى الذى تلعبه مراكز البحوث العربية، طرح الدكتور سعد الدين إبراهيم سؤالاً مهماً تخللت الردود عليه مختلف جلسات المؤتمر، وكان سؤاله هو: لماذا فشلت مراكز البحوث فى التنبؤ بأحداث الربيع العربى؟ فى الإجابة تدخل البعض معتبراً أن غياب الخيال السياسى وراء هذا الفشل، على أساس أنه بدون هذا الخيال يتم حصر سيناريوهات المستقبل فى اثنين لا ثالث لهما، الأول هو السيناريو الاتجاهى الذى يفيد استمرار الأوضاع القائمة مهما بلغت درجة تدهورها، والثانى هو السيناريو الإصلاحى الذى يعنى إدخال تعديلات طفيفة وربما شكلية على الأوضاع السائدة بما لا ينال منها. أما السيناريو الثالث المعروف باسم سيناريو التحول الجوهرى والذى يتضمن تغييراً جذرياً فى السياسات والمؤسسات والنخب، فإنه عادة يظل خارج الحسبان. ويرجع استبعاد هذا السيناريو الثالث إلى أنه يمس مصالح مستقرة ويؤثر على مراكز قوى مجتمعية ما يحدوها إلى عدم طرحه على طاولة البحث، وهكذا حين يأتى التغيير فإنه يكون مفاجئاً وأحياناً عاصفاً.
واعتبر البعض الآخر أنه من غير الدقيق ادعاء أن مراكز البحوث العربية لم تستشرف التحولات التى شهدتها المنطقة منذ 2010، فثمة مؤشرات كانت تنذر بقرب وقوع الانفجار تضمنتها الأعمال الأدبية والدرامية، وهذا يعنى أن النخب المثقفة كانت أوعى بخطورة الأوضاع القائمة من النخب السياسية، لكن تلك المقولة التى تبناها البعض تحتاج فى الواقع إلى إثبات. فإذا كان الأمر يتعلق بعدم وعى النخب الحاكمة أو المرتبطة بها، فهذا وارد لأنها ترفض الاعتراف بحتمية التغيير للأوضاع التى تخدم مصالحها، أما إن كان الأمر يخص نخب المعارضة فالأمر يختلف لأنها شاركت بنفسها فى إسقاط النظام.
أما البعض الثالث والأخير، فقد اعتبر أن أزمة الدراسات الاستشرافية تتجاوز حدود المنطقة العربية، ودليله على ذلك أن أكبر مراكز البحث والتفكير فى العالم قد فوجئت بتطورات من قبيل انهيار الاتحاد السوفيتى وسقوط حائط برلين. وفيما يخص أحداث الربيع العربى، فإن المراكز العالمية لم تستوعب حقيقة أن هناك موجة تغيير تجتاح المنطقة العربية حتى اندلعت الثورتان التونسية والمصرية، ومن بعدهما بدأت تفكر هذه المراكز فى كيفية التعامل مع الثورات فى اليمن وسوريا وليبيا. أكثر من ذلك فإن تلك المراكز لم تتوقع بعض النتائج غير المحسوبة لسيناريوهات التعامل مع تلك الثورات، كما هو الحال فى اشتداد اتجاهات التطرف واستبدال استبداد باستبداد.
فى كل الأحوال، فإذا كان سؤال الدكتور سعد الدين إبراهيم قد كشف عن الصعوبة التى تكتنف أداء المراكز البحثية العربية لأحد أهم الأدوار المناطة بها، فإنه يدعو إلى الاهتمام بتطوير الظروف التى تعمل فيها خاصة فيما يتعلق بحرية تداول المعلومات، الأمر الذى يساعدها على بناء تحليلاتها المستقبلية على أسس سليمة بقدر الإمكان.