محمود الكردوسى!

أحمد رفعت

أحمد رفعت

كاتب صحفي

كنا هناك.. فى حديقة الفندق الذى يستقبل المشاركين فى منتدى الشباب العالمى بشرم الشيخ.. حيث مر الكاتب الصحفى الكبير المحترم محمود مسلم الذى التفت ضاحكاً وقال: «عارف أنا فى ماذا تتحدثون وعارف معسكركم ده»! كان يقصد تلك الرابطة التى تجمعنى بمحمود الكردوسى.. الكاتب والأديب والناقد والإنسان والمقاتل.. وكنا نتفق على التقدير الكبير للزعيم الخالد جمال عبدالناصر وفترة حكمه.. كانت مزحة مقصودة من «مسلم» صنعت البهجة على وجه الكردوسى عليه رحمات الله، وكانت ابتسامة لا تُنسى.. فقد كانت آلام المرض قد زارته أيام المنتدى، وكانت الحوارات واللقاءات، خصوصاً مع من لا يتيسر لقاؤهم بالقاهرة لأسباب تتعلق بالانشغال الدائم فى العمل فيما نسميه «دوامة العمل» أو «دوامة القاهرة»!

فى المنتدى هذا العام كان الناس يبحثون عن وجهين لشخصين أحبهما كل من عرفهما.. الكردوسى وإبراهيم حجازى.. حتى إن الكثيرين خُيل إليهما طيفهما كثيراً وظنوا من على البعد أنهما هناك.. رغم الهيئة المميزة لكليهما.. لكن كانت المودة واستحضار المحبين فى العقل الباطن وفى الخيال الطيب لكل محبيهما أكبر من الواقع.. لكن الحقيقة فى الأخير هى التى تكتب الواقع.. والحقيقة تقول بغيابهما عن المنتدى.. حتى لحق الكردوسى بحجازى فى لحاق الطيبين بالطيبين!

وإلى مكتب محمود مسلم -مع حفظ كل الألقاب- للتهنئة بتجديد الثقة رئيساً للتحرير والكردوسى رئيساً لمجلس الإدارة، حيث سألته هاتفياً: هل الأستاذ الكردوسى موجود؟ قال على الفور: تعالى بس وهتشوف! وعند فتح باب غرفة المكتب كان خلفه الكردوسى بابتسامته البريئة الطفولية الطيبة التى تصدقها وتصدق صاحبها على الفور.. وكأنه سمع المحادثة وكأنه ممتن للسؤال وللحضور للتهنئة!

كان اللقاء بالكردوسى قبل ذلك بسنوات طويلة.. على صفحات الصحف التى ساهم فى إنجاحها أو بالارتقاء بها وتطويرها، ولذا لم نعرف إصداراً جديداً فى الصحف الخاصة لم يستعن بالكردوسى بين فريقه.. فى هيئة التحرير أو كاتباً يمنح كل درجات الحرية ليبدع ويصنع لإصدار قراء ومتابعين وجمهور.. رغم أن هذه مهمة صعبه فى ظل تنافس شديد على مساحة محددة من القراء لا تزيد إن لم تكن تنقص وتنكمش.. حتى أصبح كُتاب كل جريدة كلاعبى الكرة ونجومها.. هؤلاء من بين فريقهم الكاتب الفلانى وأولئك من بين فريقهم الكاتب العلانى.. وكان اسم الكردوسى كفيلاً بمنح إصداره كافة صور الانحياز!

الأقلام ذات القدرات العريضة التى لا تعرف التخصص ولا تؤمن به نادرة.. تستطيع إن شاءت أن تكتب إلى جانب السياسة فى الفن.. أو فى الأدب. أو حتى عن الحوادث أو الرياضة.. الثقافة موجودة والقلم موجود والصياغة رشيقة سهلة والمعالجة جاهزة والرؤية حاضرة والمبادئ ثابتة لا ولم تتغير.. وهذه معادلة الحصول على موضوع جيد.. منحاز لقيم الخير والحق والجمال.. حتى لو كان عن حادثة مؤلمة. وهكذا كان الكردوسى وهكذا كانت كتاباته.. وهكذا كانت موضوعاته وعباراته وجمله وسطوره وكلماته وحروفه!

الأوضاع فى مصر فى السنوات العشر الأخيرة، وهى كما نسمى نصفها الأول كانت سنوات الارتباك الكبير، دفعت بالكردوسى وآخرين إلى التقدم لمخاطبة الناس.. ورغم كونه لم يكن من أنصار الرئيس مبارك ولا من أنصار حزبه ولا أحد رجاله ولا رجال رجاله ولا من المستفيدين من فترة حكمه بأى شىء، لكنه كان الأكثر جذرية فى رفض كل ما أنتجته أحداث يناير.. لم تكن عينه على -ولم يكن من أولوياته- الانتقام من عصر أو من رجاله، إنما كانت معاييره -تتفق أو تختلف فى تقديرها لكن لا تملك إلا أن تحترمها- هى النتائج على الأرض والوعى بالمخطط المرسوم لمصر ومصالح مصر ذاتها! ولذلك تجد الكثيرين يتحدثون كثيراً عن يناير وما تسببت فيه سلباً أو إيجاباً، أو عن ضرورتها وأنها انفجار طبيعى ومتوقع تسبّب فيه ظلم وفساد نظام سابق.. لكن عند الكردوسى لم يكن الأمر كذلك.. كان باب النقاش موصوداً أصلاً.. مقفولاً ابتداء.. مغلقاً نهائياً غير قابل للفتح أو للكسر.. الموقف الحاسم الرافض ليناير بكل ما فيها وبكل ما جرى بها ولكل رموزها ورجالها وشبابها وفتياتها وأحداثها!

لكن الكردوسى.. الحاسم الحازم غير القابل للجدال أو النقاش أو الحوار فى هذا الموضوع أو مع طارحيه وهو المطالب بنفى هذا الفصيل من العمل بالشأن العام المصرى وعقابهم جميعاً.. هو نفسه الكردوسى الرقيق الحالم الطيب شديد التأثر بمشاهد الوجع شديد الانحياز للبسطاء والغلابة والكادحين!

وداعاً الكردوسى.. الإنسان قبل الكاتب.. والمناضل قبل الأديب.. والمقاتل من أجل وطنه ومبادئه قبل كل شىء.. وداعاً الكردوسى الأخ الكبير والصديق العزيز والأستاذ والمعلم.. وداعاً الكردوسى الطيب النقى المخلص الشهم الكريم.

وداعاً الكردوسى.. فى جنات الخلد مع الصدّيقين والشهداء.. وخالص العزاء لأسرته وعائلته وأصدقائه وجمهوره ومحبيه.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!