بريد الوطن .. ورحل «الكردوسى».. فارس الوطن

بريد الوطن .. ورحل «الكردوسى».. فارس الوطن
«كان».. تلك الكلمة أصبحت أمقتها، لأنها أصبحت جداراً من الأسمنت يفصل بيننا وبين من نحب، وفجأة وبلا مقدمات يصبح الحاضر كان! ولكن ليس هناك فرار من أننا يوماً سيكون ما عشناه كان، ولكن الذى غاب لا يمكن أن تعطيه صفة الغائب، لأنه لا يمكن أن يغيب، لأنه الفارس والمقاتل، ومنذ متى كان للفرسان غياب؟ يظل للفارس حياة رغم الغياب عن النظر المرئى، وفارسنا من هذا النوع الذى يبقى رغم غياب الجسد، ومحمود الكردوسى الأستاذ الذى كنت أذهب مباشرة إلى الصفحة التى بها مقاله لأستمتع بكلماته التى تخرج من كاتب مختلف محترف، يصوغ الكلمات والعبارات بطريقة تزيدك حرصاً على عدم ترك كلمة بالمقال، حتى تستوعبها، وما أسهل وأعمق الكلمات التى صيغت بأنامل هذا الفارس، وما أجمل ما قيل عنه يوم رحيله، بأنه رحيل مقاتل لا يحب المحايدين، نعم كان لا يحب الراقصين على السلالم والمهادنين، رأيت ذلك وقرأته فى حربه ضد هؤلاء الذين يلعبون على كل الأوتار، والمتلونين على كل الوجوه، تلك المعارك التى خرج منها منتصراً لأنه كان يدافع عن حق، فكانت له الغلبة، وعشت معه داخل سطور كتاباته أسرح بخيال القارئ وأنا أقلب صفحات كتابه مرة واحد صعيدى، وتوقفت أمام عباراته وهو يصف حال الفقراء فى مصر، وهم كانوا دائماً شغله وهمه الدائم، وهو يقول قسوة الأيام الجميلة، حين يسأل الرجل كيف حالك - فيحمد الله على الفقر والصحة، وقمة التراجيديا فى مقاله «عيشة تقرف»، وهو يقول: «اهبط من عليائك، اسمعنى، جرب أن تأكل من طعامى، وتشرب مائى، وتقض مضجعك بخشونة فراشى، قف عدلاً وإنصافاً، ارفع بساعديك الهائلين أنقاض منزلى الذى تهدم فوق عائلتى، إنك أب لليتيم وزوج لأرملة وأخ المهجورة، انظر إلى أن حملى ثقيل»، قليلون هم من يملكون أدوات كتلك الأدوات التى يملكها الكردوسى فى الكتابة، أولها هو أن تغوص داخل المجتمع المصرى، وتتعمق داخل النفس البشرية، وهو ما ظهر فى كل كتاباته، كنت قد عرفت بمرضه الأخير عندما كنت أذهب للجريدة، وكنت أقوم بالسؤال عنه دائماً، وكنت أمنِّى نفسى بأنها وعكة وستمر وسألتقيه، ولكن كان للأستاذ لقاء أعظم وأفضل عند خالقه سبحانه، وكانت جنازته هى شهادة من كل محبيه من زملاء وتلاميذ وأناس عرفوا وأحبوا الأستاذ، وكانت الدموع هى التعبير الممكن لرجل لا يمكن أن يتكرر، رحم الله الأستاذ محمود الكردوسى.
محمد الطربيلى
يتشرف باب «نبض الشارع» باستقبال مشاركاتكم المتميزة للنشر، دون أي محاذير رقابية أو سياسية، آملين أن يجد فيه كل صاحب رأي أو موهبة متنفساً له تحمل صوته للملايين.. "الوطن" تتلقى مقالاتكم ومشاركاتكم على عنوان البريد التالي bareed.elwatan@elwatannews.com