اللواء عبدالسلام المحجوب.. 3 حكايات عن صائد جواسيس نكسة 1967

كتب: سيد المليجي

اللواء عبدالسلام المحجوب.. 3 حكايات عن صائد جواسيس نكسة 1967

اللواء عبدالسلام المحجوب.. 3 حكايات عن صائد جواسيس نكسة 1967

علاقتي باللواء محمد عبدالسلام المحجوب بدأت قبل أن أراه، سمعت اسمه مرات عديدة في جلسات المشاهير من نجوم الفن والثقافة والسياسة، كان بطل حكايات الجاسوسية، باعتباره ضابط مخابرات سابق، يمتلك رصيدا من النجاحات لا يمكن حصره، ومن يروون هذه الحكايات، كانوا يختتمون كلامهم بجملة «ده لو يحكي اللي عنده.. نعمل عشرات الأفلام والمسلسلات».. كانت هذه الجملة كفيلة بأن أطرق العديد من الأبواب للفوز بهذا الكنز.

أول لقاء مع الضابط الوسيم عبدالسلام المحجوب

في عام 2008، كان أول لقاء جمعني باللواء المحجوب بأحد الفنادق الشهيرة المطلة على النيل بوسط القاهرة، وقتها كان وزيرا للتنمية المحلية، وهناك مشكلة تخص أحد مصانع دمياط، تطور الأمر بين يوم وليلة، ليتحول إلى قضية رأي عام داخل المحافظة، فقرر أن يجتمع بأطراف الأزمة لحسمها.

وقررت أنا استغلال الفرصة للفوز بلقاء معه.

كان الجميع في انتظار الوزير داخل قاعة الاجتماع، بينما اخترت أن انتظره أمام الأسانسير، وقفت انتظر اللحظة التي تنشق فيها بوابته.. يخرج منها أشهر صائد جواسيس، ظللت واقفا لمدة 20 دقيقة، بعدها وجدت نفسي في مواجهة رجل يبتسم، وكأنه يعرف من ينتظره.

كنت أعرف أنه لن يمنحني من وقته سوى دقيقة، نستغرقها في عبور الممر المؤدي لقاعة الاجتماع، لذا لم أضيع الوقت في تعريف نفسي، بل قلت له «تفتكر ربنا استجاب لدعوة أمي.. ولا أرجع أقول لها تدعي تاني»، حين انتهت جملتي.. كان اللواء المحجوب، أمسك مقبض باب القاعة، لكنه عاد وانتزع يده مسرعا، ليخفي ضحكته، والتفت ناحيتي قائلا: «ماشي.. عجبتني الحركة دي.. كلمني بالليل»، حصلت على رقم هاتفه، وغادرت المكان سريعا.

عشت ساعات أمني نفسي بما يمكن أن تسفر عنه المكالمة المرتقبة، اللقاء الذي سيجمعني بالرجل الذي لم تفلح محاولات كبار الكتاب لدفعه إلى الكلام، عدت لمنزلي.. وظللت أذاكر الحكايات التي سمعتها عنه، بداية من ميلاده في محافظة الدقهلية عام 1935، ونشأته في أسرة ريفية، وصولا إلى تخرجه في الكلية الحربية بدرجة بكالوريوس العلوم العسكرية عام 1955، وصولا إلى وصفه بالضابط الوسيم خلال فترات عمله الأولى في جهاز المخابرات العامة.

 كنت أحلم بالأسرار التي سأحصل عليها، والمجد الذي ينتظرني بفضل هذه الحكايات، حتى غابت شمس هذا اليوم، فأمسكت بالموبايل.. وكنت مترددا، هل اتصل الآن أم انتظر قليلا؟ لقد قال لي «كلمني بالليل» لكنه لم يحدد التوقيت، رغم أنه اشتهر بالدقة في كل شيء.. وليست المواعيد فقط، قطعت كل هذه الهواجس بالضغط على زر الاتصال.. وانتظرت.. ولم أحصل على إجابة.

جمعة الشوان يكشف أسرار الريس زكريا

في صباح اليوم التالي، كان يفترض أن التقي أحمد الهوان، البطل الحقيقي لقصة مسلسل «دموع في عيون وقحة»، الذي قدم دوره الفنان عادل إمام، وكان يحمل اسم «جمعة الشوان»، قررت الاتصال به لتأكيد موعد اللقاء، فطلب التأجيل لأنه مضطر للسفر إلى السويس، وأنه مرتبط بأكثر من موعد هناك، شعرت وقتها بالإحباط وسوء الحظ، لكن خطر ببالي أن العكس ربما يكون صحيحا.

في المساء كنت أقف أمام بوابة منزل أحمد الهوان في السويس، اتصلت عليه ولم يجب، أرسلت له 3 رسائل، ولم أتلقى ردا، وبعد ساعة من الانتظار وجدته أمامي، فسألني «يا خبر أنت هنا.. مش قلنا هنتقابل بكره»، كان ردي «قلت أجي وأورطك في عزومة سمك»، بعدها تحركنا معا في سيارة كانت تنتظره، جلسنا لمدة ساعة في مكان على البحر، كان برفقتنا 3 أشخاص لا أعرفهم، ولم يشغلني في هذا اليوم، سوى الخروج بأكبر قدر من الحكايات.

عدت إلى القاهرة بعد 7 ساعات، قضيتها في مدينة الغريب، كنت أشعر بنشوة الانتصار، ليس بسبب ما حصلت عليه من معلومات، بل بسبب جملة قالها لي أحمد الهوان في نهاية كلامه.. «ابقي اتصل باللواء المحجوب»، كنت متشوقا للاتصال به، ورغم أن الساعة كانت تجاوزت العاشرة مساء، إلا أنني قررت عدم الانتظار لليوم التالي، ولم أصدق نفسي حين جاءني الرد سريعا.

كانت لدي اسئلة كثيرة، وأعرف أن الوصول لإجاباتها أكبر من مكالمة تليفونية، قررت أن أبدأ بما يمكن أن يثير فضوله ليمنحني الوقت، فقلت له «أنا مش مصدق إن الريس زكريا بيرد عليا.. ده جمعة الشوان بنفسه بيقول لي أن حضرتك مشغول من فترة ومش عارف يكلمك»، نجحت كلماتي الأولى في فتح شهية الرجل، الذي أتشوق لمقابلته.. أو هكذا اعتقدت.

لم يمنحني اللواء المحجوب فرصة إدارة الحوار، نطق الجملة التي أربكتني، قال لي «يخرب بيته.. هو قال إيه كمان»، وفي ثوانٍ معدودة.. انقلبت الآية، كان هو من يسأل.. وأنا المطالب بالإجابة، دفعني لحكي كل ما لدي، بعدها سألني «أنت هتنشر الكلام ده»، أبلغته أن الموضوع مرهون بموافقته، وكان رده أنه لا يحق له منعي من النشر، فقلت له «الأهم هو ألا تمنعني من مقابلتك».

يوميات اللواء المحجوب في اليونان

التقيت اللواء المحجوب مرتين، وتحدثنا عبر الهاتف مرتين، لكنني لم أفز من حكاياته بالكثير، والسبب جملة كانت تقف بينه وبين من يرغبون في دفعه لفتح خزائن مصيدة الجواسيس، جملة حين ينطقها، لا تملك سوى تغيير دفة الحديث، «اللى عايز حاجة يطلبها من صاحبها، أنا معنديش حكاية خاصة بي، أنا كنت بأدي واجبي».

أمس، عرفت برحيل اللواء المحجوب، الرجل الذي تصدرت حكاياته العديد من الأعمال الفنية في السينما والمسلسلات، ولم يعرف مشاهديها أنه البطل الحقيقي لها، لأن المعلن منها فقط، هو دور «الريس زكريا»، الذي قدمه صلاح قابيل، وهي المعلومة التي منحني فرصة نشرها قبل 12 عاما، ومنحني أيضا فرصة نشر تعليقه على كشف هذا السر.

الآن اتذكر معكم تفاصيل الحكاية

سافر أحمد الهوان «جمعة الشوان» إلى اليونان، بعد عدوان يونيو 1967، بحثا عن ألفي دولار -دينا له عند خواجة صاحب سفينة كانت تعمل بالميناء- فلوس الدين كانت سببا، لكن الحقيقة أنه كان يبحث عن فرصة عمل، خاصة أنه بمبوطي واشتغل في السياحة.

هناك تعرف داخل أحد مطاعم أثينا، على بحار دمياطي، أخبره أن اسمه (زكريا) وأطلق عليه هو اسم (الريس زكريا)، سرعان ما توطدت علاقتهما، كحال غالبية المصريين في الغربة، أقاما معا في شقة واحدة لمدة شهر، كان كل منهما يستيقظ كل يوم في الصباح، ويذهب للبحث عن عمل، ثم اختفى الريس زكريا، وبقي رفيقه ليكمل المشوار.

عاد أحمد الهوان إلى مصر بعد عام، كان محملا ببعض الشكوك في الاشخاص الذين تعامل معهم في اليونان، خاصة أنه سمع الكثير من الحكايات، عن جواسيس تم القبض عليهم في مصر، وبعضهم من محافظته، فقرر أن يحسم الأمر فور وصوله إلي مطار القاهرة في السادسة صباحا، كان معه حقيبة بها 185 ألف دولار، أول ما خطر بباله، أن يذهب لمقابلة الرئيس جمال عبد الناصر، ولأنه اعتبر الوقت غير مناسب، ذهب إلى مبنى المباحث العامة بالتحرير، طالبا مقابلة أحد المسؤولين لأمر مهم، وبعد لحظات، وجد نفسه أمام ضابط يبدو أنه كان صاحب سلطة كبيرة، فابلغه برغبته في مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر، وكان رده «وأنا منفعش؟» حاول أن يعرف ما يريد أن يقوله للرئيس، لكن دون جدوى.

احتجز أحمد الهوان لمدة يومين داخل المبنى، جرت خلالهما تفاصيل كثيرة، انتهت بأن وجد نفسه فجأة في منشية البكري، ويجلس أمام علي صبري سكرتير الرئيس للمعلومات، الذي حاول بدوره أن يعرف سبب إصراره على مقابلة الرئيس، فشل في الحصول على إجابة، فجرى نقله لمكتب آخر.. وبعد لحظات.. ظهر الرئيس عبدالناصر، فانهمرت دموع أحمد الهوان بفعل المفاجئة.

وحكي للرئيس، ما دار بينه وبين الأشخاص الثلاثة الذين أعطوه الدولارات، وطلبوا منه فتح مقر لشركة حديد وصلب في مصر، فابتسم الرئيس، وطلب توصيله إلى المخابرات العامة في القبة، هناك التقى بضابط وسيم وشيك.. واندهش حين قال له «أنت مش فاكرني»، فحاول أن يدقق في ملامحه، لكنه لم يتذكره، وقتها فتح الضابط الوسيم درج مكتبه، وأخرج منه الساعة التي باعها أحمد الهوان في اليونان للريس زكريا.

أدرك أحمد الهوان، أنه يقف أمام الرجل الذي كان يقيم معه في اليونان، وقتها اطمأن قلبه، وأدرك أن شكوكه كانت في محلها.

حكايات اللواء المحجوب مع «الحفار» وجواسيس بئر سبع

اللواء المحجوب الذي يختصر البعض سيرته في دور «الريس زكريا»، كان بطل قصة أخرى، تحولت إلى مسلسل يحمل اسم «السقوط في بئر سبع»، إنتاج عام 1994، عرض تفاصيل الأسرة التي مارس كل أفرادها التجسس، في الفترة بين النكسة وعبور أكتوبر 1973، الأب «إبراهيم شاهين» قدم دوره الفنان سعيد صالح، الأم «انشراح»، قدمت دورها الفنانة إسعاد يونس، والأبناء «عادل» قدم دوره الفنان خالد محمود، «محمد» قدم دوره الفنان طارق لطفي، والابنة «زينب» وقدمت دورها الفنانة حنان ترك، وصدر الحكم  على إبراهيم وانشراح بالإعدام، وابنتهما بالمؤبد، وأودع الولدان محمد وعادل في الإصلاحية لصغر سنهما، وجري تخفيف الحكم بعد ذلك.

حكاية أخرى كان اللواء المحجوب واحدا من أبطالها، تحولت إلى مسلسل عام 1996، يحمل اسم (الحفار)، وعرض عملية تدمير حفار إسرائيلي في دولة أفريقية، قبل أن يدخل إسرائيل لاستغلاله في التنقيب عن البترول في سيناء، التي كانت محتلة وقتها.

الغريب أن عملية الحفار الحقيقية التي جرت أحداثها عام 1968، جرى خلالها الاستعانة بفنانة شهيرة -تزوجت فيما بعد من شخصية عربية معروفة- لتكون جزء من خطة الخداع، إذ طُلب منها السفر لدولة أفريقية، بحجة تصوير فيلم جديد، تمكنت من تدبير الأمر بشكل عاجل، وسافرت بصحبة فريق العمل، جري تصوير فيلم نالت بسببه انتقادات عديدة، بعد أن جرى تصنيفه كفيلم مقاولات، بسبب ملابس البطلة الجريئة، واسم العمل الغريب، الذي يستند لتصويره بالكامل في أدغال أفريقيا.

حكايات اللواء المحجوب لا تنتهي، لكنه ظل طوال سنوات عمره، يتجنب الحكي، يفضل أن يعيش كشخص عادي بسيط، رغم أنه يمتلك كنزا من الحكايات، كنت ننتظر أن يفرج عنها، لأنه منحنا ومنح هذا الوطن أكثر مما يملك.. وأتمنى أن نخلد ذكراه بما يستحق.


مواضيع متعلقة